بمعزل عن حالة التعاطف التي أثارها قرار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بالاعتكاف، أو التنحّي، أو تعليق نشاطه السياسي، لكن مفاعيل هذه الحالة لم تحجب سؤالاً مركزياً احتل صدارة الاهتمام، سواء من جانب محازبي الحريري، أصدقائه، حلفائه وخصومه: ماذا بعد الانكفاء؟
سريعاً، انطلق البحث في مقتضيات مرحلة ما بعد سعد الحريري وطبيعتها، لا سيما وأنّ نزوله عن المسرح السياسي ستكون له مفاعيل مباشرة على الاستحقاق النيابي المنتظر. ولهذا، تتمّ مناقشة كلّ الصيغ الممكنة لمواجهة الانتخابات بعد الفراغ الذي سيحدثه غياب رئيس «تيار المستقبل»، وبالتالي خلط الأوراق الذي سيسبّبه. القوى السياسية التي استفادت من أصوات الكتل الزرقاء الموزعة على امتداد الدوائر الانتخابية، تعيد جدولة حساباتها بالتوازي مع عملية تنقيب عميقة عن أطر بديلة لـ»تيار المستقبل» قادرة على تحفيز الشارع السنيّ وحمله إلى صناديق الاقتراع. فيما المتحمسون من «الحريريين» لخوض الاستحقاق النيابي، وهؤلاء باتوا أكثرية، يبحثون عن مظلة تقيهم شرّ العراء السياسي. إلى الآن، تبدو دار الفتوى هي الملجأ الوحيد.
يوم الجمعة الماضي، سارع رئيس الحكومة نجيب مقياتي إلى تطويق طرح الاعتكاف العام للطائفة السنية، بحضور مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان، ليقطع الطريق على أي محاولة قد تبقي أبناء الطائفة السنيّة في منازلهم يوم 15 أيار المقبل. كذلك توجّه رئيس الجمهورية ميشال عون إلى دار الفتوى من باب دعوتها «لعدم اخلاء الساحة»، و»إلا فإنّ السيبة الميثاقية التي تستند الى ركائز متوازنة سيختلّ توازنها».
وها هو وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق يوجّه سلسلة رسائل من على منبر دار الفتوى، من باب تحديد اولى قواعد مرحلة «ما بعد سعد الحريري»، ولو أنّه أقرّ أنها لا تزال «غير واضحة المعالم»، من خلال التأكيد:
– أولاً، الاعلان رسمياً أنّ صفحة التسوية الرئاسية التي نسجها الحريري في العام 2016 قد طويت، واصفاً قرار الأخير بـ»الابتعاد الضروري في هذه المرحلة»، مؤكداً أنّ «لا أحد ينتهي في السياسة بلبنان»، لكونه مقتنعاً أنّ «الحريرية الوطنية» كما يحلو له تسميتها، لا تزال «حيّة»، وهي القبّة السياسية التي ستتظلّلها الشخصيات السنية المؤمنة بهذا النهج والتي ستقرر خوض الاستحقاق النيابي. ما يعني أنّ مغادرة رئيس «تيار المستقبل» المشهد الانتخابي والسياسي، لا تعني بالضرورة مغادرة الطائفة بأكملها، لأنّه لا بدّ من المضيّ قدماً على قاعدة أنّ الطبيعة تكره الفراغ. ولهذا يصرّ المشنوق في أدبياته على استحضار رفيق الحريري، مؤكداً أنّ «تجربة الرئيس رفيق الحريري ستظلّ مهبطاً إضطرارياً لكل من يريد التحليق بالعلم اللبناني، والنجاح والابتكار والتألّق».
– ثانياً، عزل مسار بهاء الحريري عن نهج الحريرية الوطنية خصوصاً وأنّ الأخير «يحاول اسقاط نفسه بـ»البراشوت» كوريث شرعي لهذا المشروع فقط لكونه يحمل «بطاقة هويّة كتب في خانة اسم الوالد: «رفيق الحريري»، لا وهذا يعني أنّه قادر على قيادة المشروع ولا أنّه يملك القدرة، ولا أنّه يحمل الخبرة في معرفة مسيرة الوالد ومتابعتها»، كما قال المشنوق الذي وصف مشروع بهاء بـ»الثأري» من والده وشقيقه.
– ثالثاً، حصر مرجعية الطائفة بدار الفتوى في ظلّ ما يحكى عن محاولات يقودها رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة، مع رؤساء الحكومات السابقين لتثبيت ثلاثي هذا النادي، كوصيّ سياسي على أبناء الطائفة خصوصاً في ما خصّ الاستحقاق النيابي، من خلال تأليف لجنة فاحصة تتولى تشذيب الترشيحات واجراء «فحص دمّ وطني» للمرشحين. ويتردد أنّ هذا الطرح وجد طريقه إلى النقاش خلال عشاء ضمّ الثلاثي جرى خلال الأيام القليلة الماضية في محاولة لتكوين «قيادة جماعية» للطائفة السنية تحت عنوان مواجهة الانتخابات، و»الشغور الزعماتيّ».
في الواقع، تقول أكثر من شخصية سنية إنّ محاولات ثلاثي رؤساء الحكومات تواجه اعتراض العديد ممن يطمحون إلى الوقوف على حلبات الملاكمة النيابية، لاعتبارات عديدة، أهمها أنّ طرح السنيورة لا يحظى بأي غطاء خارجي، وتحديداً سعودي كي يكون مقبولاً من أبناء طائفته، كما أنّه لا يملك الامكانات التي تسمح له بتشغيل ماكينات انتخابية مناطقية بقيادة مركزية تعوّض «بطالة» ماكينة «تيار المستقبل». ما يعني أنّ مشروع إنشاء «اللجنة الفاحصة» لا ينمّ إلا عن محاولة لفرض هيمنة انتخابية من شأنها أن تزيد حالة الارباك والتشرذم الحاصلة في البيئة الحريرية.