مفهوم الزفت الانتخابي الذي غزا البلد، قبل عشرات السنوات، يكشف النقاب عن هشاشة السياسة المحلية. يتبارى عددٌ كبير من السياسيين حول من يفوز بـ«فلشة زفت» من أجل توظيفها انتخابياً. هذا أقصى ما يطمحون للوصول إليه في «سجل إنجازاتهم»
تُخاض الانتخابات النيابية في لبنان على وقع هدير «كاميونات» الزفت. أعلام الأحزاب السياسية، وصور المُرشحين، تُرفع على «فلاّشات الزفت» التي تجوب الأحياء الداخلية والطرقات العامة، مع أنّ أقل واجبات الدولة هو تأمين بنى تحتية سليمة. انتشار الزفت في القرى، مع اقتراب الانتخابات، تحول إلى نكتة بين اللبنانيين منذ سنوات طويلة، علماً بأنّ معظم السياسيين لا يدفعون ثمن «الذهب الأسود» من مالهم الخاص، بل من أموال عامّة.
مفهوم الزفت الانتخابي ليس طارئاً على الحياة السياسية. كان، ولا يزال، لكل منطقة «زفّيتتها». صوّر كاريكاتور في إحدى الصحف، في الستينيات، النائبين الراحلين فؤاد غانم البون ولويس بو شرف، يتسلّق كلّ منهما محدلة للزفت ويتسابقان على الوصول إلى الجرد الكسرواني. في الكورة، كان الزفت «اختصاصاً» لـ«فؤاد بك غصن»، وفي جزين كانت وزارة الأشغال «شغلة» مارون كنعان في معاركه الدائمة ضدّ آل عازار. في انتخابات ١٩٩٦، قدّم النائب السابق ناظم الخوري طعناً في فوز منافسه النائب السابق إميل نوفل. أعيد إجراء الانتخابات في العام التالي ففاز نوفل مُجدداً، بعدما اعترض على الطعن، إذ إنّ «الأهالي معي لأنني زفّتّ لهم الطريق». في ٢٠١٢، حين دشّن النائب (يومها) ميشال عون ووزير الأشغال السابق غازي العريضي طريق ذوق مصبح ــ فاريا، التي لم تعرف الزفت منذ أيام الرئيس فؤاد شهاب، أبى رئيس اتحاد بلديات كسروان ــ الفتوح السابق نهاد نوفل أن يُسجَّل لعون هذا «الإنجاز». فعلّق اللافتات شاكراً العريضي حصراً! «سفير الزفت»، السابق، في البقاع الغربي كان النائب وائل بو فاعور، قبل أن يبدأ تيار المستقبل بسحب «اللقب» منه.
فريد هيكل الخازن «وزير أشغال كسروان» والزفاتات في البقاع الغربي تحت أعلام «المستقبل»
مؤخراً، حوّلت «فلشة الزفت» عدداً من السياسيين إلى «نجوم». مُرشح القوات اللبنانية عن دائرة كسروان ــ جبيل، زياد حواط، يعتقد أنّ تعليق صورته على شاحنة زفت سيجعل الناس يقتنعون بـ«خطابه» السياسي ومشروع القوات النيابي. تيار المستقبل يرفع أعلامه على «الزفاتات» في البقاع الغربي، علّ الناخبين البقاعيين ينسون الإهمال الإنمائي، فيما ستعمد مؤسسات «الغد الأفضل» التابعة للوزير السابق عبد الرحيم مراد، بحسب نجله حسن، إلى «تقديم 1000 طن من الزفت لبلديات البقاع الغربي»، لافتاً الى أن نواب المنطقة يرفعون أعلاماً حزبية على الزفاتات «من أجل تمنين الناس قبل الانتخابات… يا سعادة النائب الزفت حق للمنطقة وما تفعله إحراج لك ولتيارك». النائب السابق فريد الخازن و«مؤسسة رشيد الخازن للتعهدات» يستحوذان على أكبر نسبة من مشاريع الزفت، حتى بات الخازن يُعرف بـ«وزير أشغال كسروان». في المتن، يُسجّل نشاط واسع في هذا «الميدان» للنائب السابق إميل إميل لحود الذي يقول لـ«الأخبار» إنّ «الزفت يأتي باسم الوزير. المعنيون يُقدمون طلباً وأنا أدعمه في الوزارة. كما أنّ النائبين ميشال المر وسامي الجميّل يُتابعان ملفات من هذا النوع».
يقرّ النائب السابق كريم الراسي لـ«الأخبار» بأنّ الزفت «يُفيد سياسياً». الراسي، الذي تنتشر أخباره على موقع المردة الإلكتروني مُتفقّداً الزفت ومستقبلاً وفوداً تشكره ووزير الأشغال يوسف فنيانوس على تلزيم طريق ما، يقول مُدافعاً «لا نعيش في سويسرا». ويروي أنّه بعد تسلّم فنيانوس وزارة الأشغال، «جمعتُ رؤساء البلديات، حتى أخصامنا في السياسة. قلت لهم إنّ الوزارة اليوم بين أيدينا، فهاتوا ما لديكم من طلبات. أسلافنا عملوا وفق الأسلوب نفسه». وصلته ملفات بقيمة ١٧ مليار ليرة، «ولكن حصلت على ٣ مليارات وتيار المستقبل على ٣ مليارات أخرى». إلا أنّه يوضح أنّ «الكل سياسياً لُبّيت طلباتهم. جيمي جبور (المرشح العوني المُفترض إلى الانتخابات) طلب تزفيت طريقين بقيمة ١٠٠ ألف دولار، قلنا له تكرم عينك».
بعد تشكيل حكومة سعد الحريري الأخيرة، قيل الكثير عن أنّ تيار المردة سيوظف وزارة الأشغال في معركته الانتخابية ومعارك حلفائه. في كسروان، مثلاً، يشكو التيار الوطني الحر من أنّه «يتم إبلاغ كلّ من يريد تقديم طلب زفت بضرورة المرور عبر فريد هيكل الخازن. وقف وطى الجوز وحده حصل على ١٠ شاحنات زفت». مصادر وزارة الأشغال تنفي ذلك، مؤكدة أنّ «السياسة تقف على أبواب الوزارة». تتحدّث مصادر الوزارة عن «حقوق الناس من الخدمات، وبالتالي عدم تسييس هذا الملف». ولكنها في الوقت نفسه ترى أنّ من الطبيعي «أن يهتم كلّ وزير بمنطقته أولاً. وتماماً كما لو كان هناك وزير للحزب الاشتراكي سيقول إنّه هو الذي يُقدّم الخدمات، لا يُخفي حلفاؤنا أنّ الزفت يأتي عبرهم». الانزعاج من البعض الذي «يأتينا بخطاب نحن العهد ونريد الزفت، أو من يُهوّل في الاعلام بأنّ الوزير لا يعطيهم الزفت ظنّاً منهم أنهم بذلك يضغطون علينا». فكلّ من تقدّم بطلب «يُنفّذ إن كانت هناك إمكانية، مع مراعاة الأولويات. البلديات والأقوى في قضائه سيأخذ الزفت». بهذه الطريقة «لا يُمكن لأحد أن يقول إننا لا نعمل من أجل الإنماء. رغم أنّ البعض يعتقد أنّه إذا لم تمر الخدمة عبره لا يُعتبر ذلك إنماء».
رغم ذلك، لا دليل على أن تسابق السياسيين لإدراج الزفت ضمن «إنجازاتهم» يؤثر في توجهات المقترعين، خصوصاً إذا كانت الخدمة عامة لا شخصية. أصحاب هذا الرأي يؤكدون أنّ الزفت لا يصنع نائباً، ويُعطون مثالاً على ذلك ما حصل في كسروان عام ٢٠٠٩. يومها كان همّ تيار المستقبل ضرب صورة عون كـ«زعيم للمسيحيين». فوُضعت كلّ الإمكانيات في بتصرّف النائب السابق منصور غانم البون: المال والزفت. يومها «وصل الزفت إلى سطوح المنازل». إلا أنّ النتيجة كانت تجديد البيعة لخيار «ميشال عون» السياسي. القصة عينها تكرّرت مع الوزير غطاس خوري الذي لم تنفعه «زفتاته».
محاصصة «الأشغال»
حين تسلم الوزير يوسف فنيانوس وزارة الأشغال كان «قد صُرِف من الميزانية قرابة ٦٣ مليار ليرة، وبقي لنا نحو ٩٠ ملياراً»، بحسب مصادر الوزارة. وُزّعت الأرقام على الأقضية وفق الأرقام التقريبية الآتية (من دون احتساب الكسور، ومن دون يعني ذلك أن كامل هذه المبالغ قد أنفقت): ١٠ مليارات لعكار، ٨ مليارات للمنية ــ الضنية، ٥ مليارات لطرابلس، ١١ ملياراً في زغرتا، ٥ مليارات في بشرّي، ٧ مليارات في الكورة، ٦ مليارات في البترون، ٦ مليارات في جبيل، ٦ مليارات لكسروان، ٦ مليارات للمتن، ٥ مليارات للشوف، ٥ مليارات في عاليه، 8 مليارات لبعبدا (ضمناً الضاحية الجنوبية)، فيما حصة بعلبك ــ الهرمل لم تتعدّ المليار «بعد أن حصلت في عهد غازي زعيتر على حوالى ١١ ملياراً»، ٧ مليارات لزحلة، ٥ مليارات للبقاع الغربي، ٦ مليارات لحاصبيا ــ راشيا، ٤ مليارات لجزين، صيدا ٣ مليارات، وصور ٣ مليارات، ٤ مليارات في بنت جبيل، ٣ مليارات في مرجعيون، ٣ مليارات في النبطية، «وقرابة ٢ مليار مُختلف، له علاقة بالطرقات الدولية وصيانتها». وقد جرى الأخذ في الاعتبار «التوزيع الطائفي وحاجات الأقضية». ووفق دراسة لمجلس الإنماء والإعمار تبين أنّ «الطرقات الأسوأ موجودة في جبيل والبترون وزغرتا وبشرّي والكورة وعكار». والمبلغ الذي يزيد على الحصة التي سمحت بها الوزارة لمنطقة ما «يدفعه المعني من جيبه»، أي في الكثير من الأحيان، قد لا تكون «الأشغال» من تضع خدماتها في تصرّف السياسيين.