Site icon IMLebanon

عدم الاعتراف المذهبي بالعلويّين الأتراك: الصدمة الأوروبيّة

تعيش الحداثة التركية فصلاً مهمّا وخلاّقاً من السجال حول الشرعية الدينية للأقليات المسلمة ولو أن طابعه سلبيٌّ حتى الآن بل رغم الجمود في إحراز تقدّم… إنه المتعلّق بنشاط العلويّين الأتراك (بين 15 مليوناً و20 مليوناً) للحصول على اعتراف الدولة التركية بهم كمذهب إسلامي مستقل.

الجديد الذي يدفعني اليوم للتطرّق لهذا الموضوع هو حكمان قضائيّان متتاليان أوروبي وتركي أشبه بالسجال أو، بالحد الأدنى، أشبه بالتخاطب. صدر الحكم  الأول عن المحكمة الأوروبيّة لحقوق الإنسان في ستراسبورغ والذي نصّ أن “إدارة الشؤون الدينية” في تركيا، وهي الإدارة الرسمية للإشراف على النشاط الديني في الجمهوريّة التركيّة، لا تزال هي مصدر الظلم الرئيسي للعلويّين الأتراك لأن الدولة التركيّة لا تعترف بالمذهب العلوي دينيا باعتبار أن إدارة الشؤون الدينية تعترف بالإسلام السُنّي كممثل وحيد للإسلام في البلاد (مع اعترافها طبعا بالكنائس المسيحيّة والطائفة اليهودية).

صدر هذا الحكم الأوروبي الهام جداً لصالح الدعوة للاعتراف بالإسلام العلوي في 2 كانون الأول الجاري وفي اليوم التالي صدر حكمٌ عن المحكمة التركية العليا يتبنّى أحكاماً سابقة عن محاكم الدرجة الأولى في تركيا أن الـ”جِمِعي”، أي بيوت الدعوة لدى العلويّين الأتراك، هي مراكز ثقافية قانونية لكنها ليست دور عبادة لأن القضاء لا يستطيع منح الصفة القانونية لها كدور عبادة وإنما اعتبارها دور عبادة يرتبط بالخيار الفردي أي بنظرة الفرد إليها.

الحكم الصادر عن المحكمة الأوروبيّة يصيب إذن بنية النظام السياسي التركي كنظام تمييز ديني وينقل المسألة إلى مستوى حقوقي رفيع أوروبيّا وبالتالي عالميّا. وهو ما ستكون له انعكاساته بين النخب الليبرالية التركية الداعية إلى سد هذه الفجوة البنيويّة في الديموقراطيّة التركية.

لم يتقدّم العلويّون الأتراك إلى الآن في مسار مطلبهم المزمن للاعتراف بهم كمذهب إسلامي مستقل… أو حسب صياغة زعمائهم الاعتراف بـ”مقاربتهم للإسلام”.

الدولة التركيّة في موقفها “الفقهي” من الموضوع، وهو الاختيار الفردي لدينيّة الرمز أو عدمها، تختار مخرجاً هروبيّاً لعدم الاعتراف بالمذهب العلوي الذي ينتمي إليه بين 15 و20 مليون مواطن في البلد المسلم الأكثر حداثة بين البلدان المسلمة في الشرق الأوسط وإفريقيا. جديرٌ بالذكر أن الدولة التركية على اختلاف عهودها تجيب على مطلب أكراد تركيا الاعتراف بحقوقهم السياسية والثقافية كجماعة، الجوابَ نفسَه حتى الآن أي اعتبار المسألة متعلّقة بحق الفرد في ممارسة حريته وليس بحق الجماعة. حتى أن معلّقا تركيّاً بارزا كجنكيز تشاندار في كتابه الأخير “قطار الرافدين السريع – رحلة في التاريخ” يعتبر بناءً على سرد طويل لمختلف وجوه التجربة التركية الحديثة في الشرق الأوسط بأسلوب جذّاب يدمج الشخصي بالعام (صدرت طبعته الأولى بالعربية مؤخّراً عن الدار العربية للعلوم – ناشرون) أن العلاقة مع الأكراد باتت تتعلّق جوهريا بتغيير مفهوم “الدولة القومية” الذي تتبنّاه تركيا منذ تأسيس الجمهوريّة عام 1923.

المفارقة اليوم أن رفض التقدّم نحو حلَّيْن للمسألتين الكرديّة والعلويّة انتقل من القوميّين إلى الإسلاميّين أو فعليّاً إلى “القوميّين” الجدد بقيادة رجب طيِّب أردوغان رغم إصرار أردوغان على أنه ماضٍ في حوار مع الأكراد عبر زعامتهم الواقعية الممثَّلة بالأسير عبدالله أوجلان في أحد السجون التركية.

لكن إذا كان التعثّر التاريخي  في المسألة الكردية يتعلّق بنظرة الدولة التركية إلى نفسها كدولة قومية للأتراك فإن التعثّر في المسألة العلويّة يتعلّق حاليّا بوجود حزب إسلامي في الحكم يسيطر على السلطة بنمط شعبوي ويرفض عميقاً فكرة وجود “إسلام صحيح” خارج الإسلام السنّي… بينما كان موقف رفض الاعتراف بالشخصية المذهبيّة في عهود ما قبل الإسلاميين ناتجا عن تقليد عريق عثماني لمذهب الدولة الحنفي نظر إليه الأتاتوركيّون على أنه جزء لا يتجزّأ من الشخصية التاريخيّة التركية. ولهذا فإن جانكيز تشاندار محقٌّ في اعتبار الملف يتعلّق بكل بنية الدولة التركية وليس فقط بالإسلاميّين الحاكمين اليوم.

في زمن سيطرة الفكر الديني المبني على مذهب محدّد على دول مهمّة في المنطقة كالسعودية وخصوصاً إيران التي تعتبر المذهب الجعفري الإثنيْ عشري في الدستور مذهب الدولة (لكنها تعترف بالمذاهب السنية والديانات الأخرى التي تعتبرها توحيديّة وهي المسيحية واليهوديّة والزرادشتيّة)… سيطرةُ هذا الفكر تُفاقِم من صعوبة تحقيق تقدّم في تركيا على صعيد المطالب العلوّية.

لكنْ تبقى واحدة من أكبر العقبات إن لم تكن الأكبر التي تحول دون الاعتراف بالمذهب العلوي هي فرادة الموضوع من الزاوية التي يُطرح فيها في تركيّا أي الدعوة لاعتبار المذهب العلوي ضمن مسؤوليات إدارة الشؤون الدينية مثله مثل المذهب الحنفي. فباستثناء اعتراف الدولة اللبنانية بالطائفة العلوية، وتمثيلها بمقعدين في البرلمان، وهو أمر حصل متأخِّرا نسبيا رغم التكوين الطائفي الشديد للنظام اللبناني، والاعتراف السابق في عهد الانتداب الفرنسي وبدايات العهد الاستقلالي بالتمثيل العلوي (والطوائف الأخرى الأساسية الدرزية والإسماعيليّة والمسيحية) في النظام الانتخابي في سوريا واعتراف الدولتين الهنديّة والباكستانية بالمذهب الإسماعيلي من الصعب أن نجد في العالم المسلم، في ما يتعلّق بالأقليات المسمّاة الباطنية، وهم العلويون والدروز والإسماعيليّون  سوابق حديثة في تشكيل الدول المسلمة القائمة.

لكل هذا يمثِّل الجدل حول الاعتراف بالمذهب العلوي في تركيا قضية حداثيّة في غاية الأهمية لأنها ستعني في حال حصلت واحدة من مستويات التعبير الديموقراطي العالية المستوى في دولة مسلمة. لا بل يمكن القول أنها ستكون من أول تعبيرات قدرة الديموقراطية على تغيير البنية السياسية والفقهية التقليدية في مجتمعات مسلمة أساسية وفتح هذه البنية على متطلِّبات التحديث.

تركيا مرشّحة حقيقيّة لإحداث هذا التغيير بفعل تنوّع تاريخها الإسلامي نفسه. فالعلويّون، أتراكاً وأكراداً وعرباً، هم إحدى النتائج التاريخية لصراع إسلامي – إسلامي كبير وصرف هو الصراع الصفوي العثماني، آخر الصراعات التي كان فيها المسلمون قوة حقيقية كبرى في العالم. والعلويّون هم أيضا، في الجزء الباكتاشي أو البكداشي منهم، المذهب السني الصوفي لجيوش الانكشارية الذي خرج عن الإسلام السني بعد قضاء السلطان العثماني على نفوذهم في اسطنبول في النصف الأول من القرن التاسع عشر.

لكل هذه المعاني والحقائق تشكّل المسألة العلوّية في تركيا قضية تحديثيّة من الدرجة الأولى وتطورها الإيجابي هو جزء لا يتجزّأ من تطوّر النموذج التركي الوحيد الواعد في المنطقة رغم نكسته الحالية في السياسات الجديدة السلطوية والداعشية للرئيس رجب طيّب أردوغان.

باختصار: هذا مستوى جديد للرهان على النموذج التركي لأن تركيا الحديثة هي حصيلة جهود أجيال وستتجاوز السلطوية الإسلامويّة الحالية. وقد انتقلت الآن إلى مرحلة الصدمة الأوروبية… صدمة المعايير. هذا في العمق، شكلٌ من أشكال استمرار أَوْربَةِ تركيا. فحكم المحكمة الأوروبيّة يعلن بداية مرحلة تناقض سلطة الإسلاميّين في ولايتهم الثالثة مع المعايير الديموقراطية بينما كان “حزب العدالة والتنمية” ممثِّلاً للدَمَقْرَطَة في تركيا في فترة مواجهة الوصاية العسكرية في الولايتين الأولى والثانية من حكمه. وهكذا يصحّ توصيف مثقّف تركي معروف هو سوليه أوزيل أطلقه في بدايات حكم “حزب العدالة والتنمية” أن هذا الحزب ليس ديموقراطياً ولكنه قوة دَمَقْرطَة (يومها).

إنها لمفارقة هائلة أن يقوم أردوغان بقمع الإسلام المتنوِّر المعتدل والمتبنّي للقيم الغربيّة الذي تحمل لواءه حركة “حِزْمَتْ” بقيادة الشيخ فتح الله غولن في حقبة تواطئه، أي أردوغان، مع “داعش”!!