لا يقلّ الهجوم المعقّد الذي شنّته «حماس» ضدّ إسرائيل عن كونه انقلاباً على مسار السلام السعودي الإسرائيلي. فعلى الرغم من وفرة العوامل المختلفة، التي تفسّر الانفجار الحاصل، أكان وجود أكثر حكومة إسرائيلية يمينيّة في تاريخ إسرائيل، أو الاستفزازات المتصاعدة للفلسطينيين في بلداتهم كما في القدس، ومحيط المسجد الأقصى، فإنّ السؤال الذي ينبغي طرحه هو التالي:
هل ما نشهده اليوم كان ممكناً في غياب حكومة يمينية أو في ظلّ مستوى أقلّ من الاستفزازات الإسرائيلية؟
الإجابة الحاسمة نعم. ما يحصل الآن هو الحلقة الأخيرة في تطوّر الردّ الإيراني على مسار السلام السعودي الإسرائيلي، بعد فشل حلقات سابقة في فرملته.
ماذا أرادت طهران من التقارب مع الرياض؟
أرادت طهران للتقارب مع المملكة العربية السعودية أن يكون خطوة استراتيجية لتعطيل نموّ وتطوّر مسار التطبيع بين إسرائيل والسعودية. وبالفعل نقلت قبل أيام وكالة «فارس» للأنباء عن وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان قوله في كلمة خلال لقائه ضيوفاً من الدول الإسلامية مشاركين في مؤتمر «الوحدة الإسلامية» الـ37، إنّ استئناف العلاقات مع السعودية يهدف إلى «إحباط الأعداء وإغلاق الطريق أمام تطبيع العلاقات بين السعودية والاحتلال الإسرائيلي».
ذهب المنطق الإيراني منذ البداية إلى افتراض أنّ تخفيض الضغوط الأمنيّة على المملكة العربية السعودية من السياسات الإيرانية في اليمن والعراق، سيبدّد الكثير من الأسباب السعودية للسعي إلى التفاهم مع إسرائيل. وبموازاة ذلك كانت إيران تسعى عبر مناورات محسوبة إلى إعادة إنتاج مناخ الصراع العربي الإسرائيلي، رهاناً منها أنّ ذلك سيعقّد فرص الرياض للتفاهم مع تل أبيب. ظهر ذلك جليّاً من خلال سلسلة من العمليات داخل إسرائيل أو عبر الصواريخ التي أُطلقت من لبنان في مناسبات مختلفة منذ بداية العام. وشهدت بيروت على وجه التحديد سلسلةً من اللقاءات بين قادة فصائل المحور الإيراني، شملت اجتماعات معلنة بين زعيم ميليشيا الحزب حسن نصرالله، وقادة حركتَي حماس والجهاد والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وفصائل أخرى، كان محورها تنسيق المواجهة مع مشروع التطبيع الجاري في المنطقة.
بعدئذٍ جاءت مقابلة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مع قناة «فوكس نيوز»، التي أعلن فيها أنّ بلاده وإسرائيل تقتربان من السلام كلّ يوم، لتقنع الإيرانيين تماماً بأنّ الشرق الأوسط ذاهب باتجاه تحوُّل سياسي سيغيّر قواعد اللعبة في المنطقة. ولم يفُت المراقبين قول الأمير محمد إنّ السلام إن حصل فسيكون الحدث العالمي الأهمّ منذ نهاية الحرب الباردة.
فشل الرهان الإيراني
تيقّنت إيران من فشل الرهان على المصالحة الإيرانية السعودية، كوسيلة لفرملة مشروع التطبيع مع زيارة وزيرين إسرائيليَّين للمملكة خلال أسبوع واحد. بدا أنّ الزخم التطبيعي الذي عبّرت عنه مقابلة «فوكس نيوز»، يتطوّر بسرعة فاجأت الإيرانيين، وهو ما حدا بهم على الانتقال إلى مستوى آخر تماماً من المواجهة، فكان القرار بتفعيل العملية التي جُهّز لها بأعلى درجات السرّية والإتقان طوال الأشهر الفائتة.
وعليه، نحن في سياق تطوّر سياسي وأمنيّ كبير في المنطقة غير مسبوق منذ اجتياح صدّام حسين للكويت وما تلاه من إعادة هندسة للعلاقات السياسية في الشرق الأوسط. إنّها معركة حاسمة على مستقبل المنطقة برمّتها.
التطبيع بين السعودية وإسرائيل هو مسألة استراتيجية لكلا البلدين. ووقف مسار التطبيع هو مسألة استراتيجية بالنسبة لإيران.
ما الانفجار الراهن إلّا ستار كثيف من الدخّان يخفي لعبة جيوسياسية معقّدة ستكون لنتيجتها آثار عميقة في الشرق الأوسط لعقود آتية.
المعركة في بداياتها
من المبكر طبعاً البناء على نشوة اليومين الماضيين. الكثير من المعطيات ستتبلور في ضوء طبيعة الردّ الإسرائيلي ومستوى القتل والتدمير المنتظَر. ستدخل هذه العناصر الجديدة حتماً في بلورة عواطف وتوقّعات الجمهور العربي عامّة والجمهور السعودي وجمهور دول التطبيع على وجه التحديد، وستلقي بثقلها على طبيعة القرار بشأن مسار السلام السعودي الإسرائيلي.
هل تستطيع إيران عبر هجوم «حماس» أن تؤسّس لمعادلة أمنيّة وعسكرية جديدة ومستدامة في المنطقة؟ هل تنجح إسرائيل في إعادة بناء منظومة الردع ومعالجة الفشل الأمنيّ والعسكري والاستخباراتي غير المسبوق في تاريخها؟
هل تعثر السعودية في سياق هذا التطوّر على فرصة لتقنع الفلسطينيين، بعد الكثير من الموت والدمار المنتظَرَين، بأن لا مستقبل حقيقياً لهم خارج معادلة السلام، ولأن تقنع الإسرائيليين بأنّ السلام العربي الإسرائيلي ليس بديلاً عن التفاهم مع الفلسطينيين على حقّهم في تقرير المصير وإقامة دولتهم المستقلة؟
من سيقرّر مستقبل الشرق الأوسط؟ منطق إيران.. أم منطق السعودية؟
الجحيم الذي سيزداد بشاعةً خلال الأيام والأسابيع المقبلة فرصةٌ وتحدٍّ للمنطقَين معاً.
ما زالت المعركة في بداياتها.