الآن، جميعُ الناس يجب أن يكونوا راضين: قانون انتخاب بعد انتظار سنوات، سلسلة رتب ورواتب بعد انتظار سنوات، تحرير الجرود وإقفال ملف العسكريين المخطوفين بعد انتظار سنوات، النفط والكهرباء «على الطريق» بعد انتظار سنوات، موازنة بعد 12 عاماً، وحتى «القوات» و«الكتائب» أُعطِيا الحكمَ التاريخي الذي كان منسيّاً في قضية استشهاد بشير، بعد 35 عاماً. إذاً، يا جماعة، اقتنِعوا بنا وسيروا معنا «عالعِمياني»!
بَعد «الإنجازات» الداخلية، على الجميع أن يُحضّر نفسَه للاستحقاق الأبعد: هناك مسارٌ إقليمي يَرتسم ولبنانُ جزء منه. والذين أبرَموا الصفقة الرئاسية، نهايات 2016، فعَلوا ذلك لأنها الباب الذي سيتكفّل إدخالَ لبنان زمنَ التسويات في سوريا والعراق. لقد فعلوها على طريقة «مُرغَم أخاك لا بطل».
لم تكد تنطلق حكومة الرئيس سعد الحريري، مطلع السنة، حتى بدأ التحضير للتطبيع مع سوريا. وأساساً، هناك وزراء يزورون دمشق دائماً، في العلن والخفاء، بمعرفة الجميع. كما أنّ المسؤولين الأمنيين ينسّقون العلاقات بدقّة مع نظرائهم السوريين، بتغطية الجميع، علماً أنّ أجهزةً أمنية دولية تنفتح أساساً على الأجهزة الأمنية السورية وتتعاون معها، في ملفّات الإرهاب خصوصاً.
لكنّ حلفاء دمشق يعرفون أنّ التأنّي في مسار التطبيع يؤتي ثماره، لأنه يقلِّص الاعتراضَ إلى أدنى المستويات. فالرأي العام يتقبّل الفكرةَ إذا جرَت تهيئة الظروف لها، ما يوفِّر على الحريري عناءَ إقناع القواعد الشعبية المعترضة. كذلك يتيح تقليص اعتراضات القوى العربية المناهضة للأسد وطهران، بحيث يتمّ إمرار التطبيع «انزلاقاً».
لهذه الغاية، يعتمد هؤلاء برنامجاً متدرّجاً يَكفل «تبليع» التطبيع للجميع. في البدء، يقوم وزراء لبنانيون بزيارات عملٍ عادية «غير استفزازية» لدمشق. ثمّ يقوم نظراؤهم بـ»ردّ الزيارة» لهم في بيروت. ثم تبدأ مفاعيل الزيارات في الظهور: برامج عمل واتفاقات وتنسيق.
حاوَل الـ14 آذاريون أن يقولوا: «هذه الزيارات يقوم بها وزراء باسمِهم وبلا غطاء مجلس الوزراء». لكنّ المفاعيل اللاحقة ستنفي هذه المقولة، لأنّ مجلس الوزراء سيضطرّ إلى الاعتراف بكلّ ما يترتّب عنها.
وليس منطقياً أن يكون جزء من مجلس الوزراء منفتحاً على الأسد والنصف الآخر يقاطعه. فالحكومة يجب أن تتبنّى سياسة واحدة. ولذلك، ولأنّ حلفاء الأسد هم الأقوى، فإنّهم سيفرضون التطبيع، وسيَرضخ الآخرون، ولكنْ ببطء وخجل. وربّما يعترض بعضهم فعلاً، («القوات» مثلاً)، ولكن، قد يقوم آخرون من 14 آذار بإثارة غبارِ الاعتراض ضدّ التطبيع لتغطية الموافقة الضمنية.
في الأشهر المنصرمة، زاد حلفاء سوريا جرعات التطبيع تدريجاً ليعتاد الجميع على الفكرة ويتحقّق المطلوب بأقلّ مقدار من التوتّر الداخلي. وفي اعتقادهم أنّ القوى الداخلية، ولا سيّما منها الحريري، بات ميّالاً إلى «الواقعية»، خصوصاً إذا تراجعَت مستويات الضغطِ السعودي في هذا المجال، وغابت المواقف التي تُسبّب له الإحراج كتلك التي أطلقَها الوزير ثامر السبهان.
في خلال زيارته الأخيرة لموسكو، أدرَك الحريري أنّ هناك تفاهماً دولياً – إقليمياً على بقاء الأسد في السلطة. ولذلك، بات الحريري مقتنعاً بالواقعية. فالمواجهة لن تؤدّيَ به إلى الانتصار، بل إلى العزلة مجدّداً والخروج من السلطة والابتعاد عن ممارسة اللعبة السياسية وعن زعامة تيار «المستقبل» والطائفة، وربّما عودته إلى الخارج.
في هذه الفترة، يزداد الحريري اقتناعاً بصفقة 2016، خلافاً لِما يَعتقد البعض، على رغم اتجاه الحكومة إلى زيادة جرعات التطبيع مع الأسد. ولقاء كليمنصو حسَم اتّجاه الحريري، بكفالة «حليفه» رئيس مجلس النواب نبيه بري، فيما هو يَلقى تشجيعاً في هذا الاتّجاه من «حليفه» الآخر رئيس الجمهورية ميشال عون، مقابل اعتراض «حليفه» رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع.
هناك عنوانان سيفتحان حتماً بابَ دمشق للجميع في المدى القريب، مهما علا صراخُ الاعتراض:
1 – ملفّ النازحين الذي يَطرحه عون بصفته أولويةً في هذه المرحلة. وهو يفرض عملياً التواصلَ المباشر مع الأسد.
2 – إعادة إعمار سوريا، وهذا هدفٌ أساسي يَعمل له الحريري وكثيرون.
رئيس الحكومة يَطمح، كما كثير من القوى السياسية والمستثمرين في لبنان، إلى الاستثمار في سوريا، مع اقتراب ملامح الحلول السياسية وإعادة الإعمار التي قدّرَها البنك الدولي في الصيف الفائت بنحو 226 مليار دولار. فالقطاع الخاص السوري ليس مؤهّلاً لهذه المهمّة لأنّ إمكاناته محدودة، وستحتاج سوريا إلى الاستعانة بتوظيفات عالمية وعربية ضخمة.
وهذه فرصة لرجال الأعمال اللبنانيين، ولا سيّما منهم أولئك الذين لهم تجربة في إعادة الإعمار في لبنان. وهناك مَن يتوقع أن تفرجَ المؤسسات الدولية عن مساعداتها لسوريا مع تبلوُرِ الحلول السياسية. وثمَّة تقديرات في أن يبدأ الإعمار في غضون العامين المقبلين، تدريجاً، مع استتباب الأمن في كلّ منطقة. وسيكون هذا الدعم حيوياً لمعالجة ملف النازحين، في داخل سوريا وخارجَها، والذين يقدّر عددُهم بنصف السكّان.
ولذلك، يرتبط ملفّ الإعمار بملفّ النازحين. وعملياً، سيكون الحريري مضطرّاً إلى القبول بمسار التطبيع – في شكل أو في آخر- ليتمكّن من تحقيق الأهداف في الملفَّين.
وهناك واقعٌ تطبيعيّ مع الأسد يَضغط إقليمياً. فكلّ جيران سوريا باتوا يقيمون اتّصالات مع نظام الأسد: الأردن، مصر، «حماس»، تركيا، وطبعاً العراق. ولبنان «على الطريق». وإذا حصَل تقدُّم في العلاقة بين المحورين السعودي والإيراني، فلن يبقى أحدٌ على رقعة الشرق الأوسط معادياً للأسد. فلماذا يغادر السلطة؟
واستطراداً، سيتهافت الكثيرون في لبنان على التغنّي بمحاسنِ العلاقة مع الأسد… وطبيعي أن يتسابقوا عليه، وأن يستقويَ به بعضُهم على بعض، ولو لم يكن موجوداً بينهم في لبنان، كما في الماضي.
يقول كارل ماركس: «التاريخ يعيد نفسَه مرّتين. مرّةً في شكل مأساة، ومرّة في شكل مهزلة»!