يبدو أن الصِّراعَ والتَّشنجات السِّياسِيَّةِ في مِنطقةِ الشَّرقِ الأوسط لن تنتهي بوقفِ الأعمال العَسكريَّةِ داخل قِطاعِ غزَّة حتى وإن شَمَلَ قرار وقف إطلاق النار باقي الجبهات التي هي على تماسٍّ مباشر مع الكيان الإسرائيلي كما هو الحال بالنِّسبة لجبهة الجنوب اللبناني، أو التي تُجرى عن بُعد كما هو الحالُ بالنِّسبةِ للجبهتين اليمنيَّة والعراقيَّة. فثمَّةَ مؤشِّراتٌ توحي بأن السَّاحةَ الإقليميَّةَ ستكون على موعدٍ مع تَشنُّجاتٍ سياسيَّة حادَّة ستُلقي بظِلالِها على المُستجدَّاتِ الإقليميَّةِ فور وقفِ الأعمالِ الحربيَّةِ الحاصِلَةِ ما بين العدو الإسرائيلي وما يُسمَّى بالأذرُعِ الإيرانيَّة، وستُبنى على تباينِ المواقِفِ من الحربِ الدَّائرة كما على ما ستنتهي إليه المواجهةُ العسكريَّة من نتائجَ مَيدانيَّة، وما ستؤولُ إليه الحلولُ السِّياسِيَّةُ على ضوء تلك النَّتائج.
فوجئ الكثير من المُتابعين بما أدلى به زعيم الحوثيين عبد الملك الحوثي في إطلالته الأخيرة يوم الأحدِ الفائتِ مُتوجِّهاً بها إلى المملكة العربيَّة السُّعوديَّة بتَحذيراتٍ وإنذاراتٍ باستهدافِ مَرافِقٍ حسَّاسةٍ فيها، مُطلقاً المُعادلة التاليَة: «المصارف بالمصارف، المطارات بالمطارات والمرافئ بالمرافئ»، على الرَّغم من كل التَّسريباتِ التي تؤكِّد أن المملكةَ رفضت مراراً وتكراراً طلب الولايات المُتَّحدةِ الأميركيَّة السَّماح لقواتها العاملة في الخليج العربي باستخدام أراضي المملكة أو أيٍّ من مطاراتها وموانئها كنقطة انطلاقٍ لضربِ أهدافٍ داخلَ اليمن الشَّقيق. وتزامنت هذه التَّحذيراتُ مع منشور عُمِّمَ عبر تطبيق (X) نُسبَ إلى زعيم التَّيَّار الصَّدري في العراقِ دعى فيها أنصاره «للعن بني أميَّةَ قاطبة» وأوضح أنه يَقصُدُ بذلك بني أميَّةَ قاطبة ومن على شاكلتهم، وليس بخفيٍّ على أحد مدى الحساسيَّةَ التي تُثيرُها هكذا مواقِف في ظِلِّ التَّشنُّجاتِ الحاليَّةِ، وخاصَّةً لكونها صادرةً عن مرجعياتٍ سياسيَّةٍ أو دينيَّةٍ لها موقِعُها وتأثيرُها على عامَّة الناس في الوقت الذي نرى منطقةَ الشَّرق الأوسطِ بأمسِّ الحاجةِ إلى مساعي التَّهدئة.
لقد ساهمَت عمليَّةُ طوفان الأقصى التي نَفَّذتها منظَّمةُ حماس بتاريخ السابع من شهر تشرين الأول من العام الفائت بازديادِ الشَّرخِ القائمِ بين الدُّول الإسلاميَّة في منطقة الشَّرقِ الأوسطِ وبالتَّحديد ما بين إيران «الدَّاعمةِ لمنظَّمةِ حماس وللعمليَّةِ التي قامت بها» ومن خلفها محور المُمانعة من جهة، ومن جهةٍ أخرى المملكةِ العربيَّةِ السُّعوديًّة «الرافضة لما تعتبرُه مُغامَرَةَ مُتهوِّرَةً تخوضُها حماس بإيعازٍ إيراني وكادت أن تَتَسبَّبَ بحربٍ إقليميَّة» ومن خلفِها بعضٌ من الدُّولِ العربيَّة المُنفتِحَةِ على الدُّولِ الغربيَّة. ويبدو أن الأمورَ أيلةٌ إلى مزيد من التَّأزُّمِ ليس على مُستوى العلاقة ما بين إيران والغرب الدَّاعمِ لإسرائيل، إنما ما بين إيران والدُّولِ الخليجيَّة السَّائرةِ قُدُماً في مسار التَّطبيعِ مع العدو الإسرائيلي رغم ارتكاباتِهِ الهَمجِيَّةِ بحقِّ الشَّعبِ الفلسطيني في قِطاع غزَّة.
ولم يَعُد بخافٍ أن بعضاً من دُولِ الخليج العربي انساقَت في مَسارِ التَّطبيع مع إسرائيل بغرضِ حمايةِ كياناتها من التَّحرُّشاتِ الإيرانيَّة إمَّا مُباشَرَةً وإمَّا بصورةٍ غير مُباشرة عبر أذرُعها، حيث يتعرَّضُ قادتها بين الحين والآخر لتَّهجُّماتِ قاسيةٍ على ألسن بعض ِ قادةِ الميليشياتِ الدائرَةِ في الفلك الإيراني، كما أن المملكة العربيَّةَ السُّعوديَّةِ على وجه التَّحديد قد تعرَّضت بالفعل لاعتداءاتٍ عسكريَّةٍ طالت عدداً من المُنشآتِ الحيويَّةِ داخلَ أراضيها، رغمَ ربطها عمليَّةِ التَّطبيعِ باعتمادِ حلٍّ نهائي للقضيَّةِ الفلسطينيَّةِ بقبول إسرائيل بحل الدَّولتين القائل بإقامةِ دولةٍ فلسطينيَّةٍ على أراضي 1948. وجميعُ تلك الدُّولِ يُساورُها القلقُ من التَّوجُّهاتِ الإيرانيَّة التي يحكُمُها مبدأ ولايَةِ الفقيه دينيًّا وزمنيًّا «سياسِيًّا» ومَنهجيَّةِ تصديرِ الثَّورةِ، والتي ترى فيها تقليباً لمُكوِّناتٍ شعبيَّةٍ مذهبيَّةٍ فيها على السُّلُطاتِ القائمة، والتي ترى فيها تدخُّلاً سافراً في شؤونها الدَّاخِليَّة.
لقد قدَّمَ العربُ منذ العام 1948 الكثير للقضيَّةِ الفلسطينيَّة، إن كان بالأرواح أو بالمساعداتِ العينيَّة والماليَّة، إلَّا أنهم للأسف بنهايةِ المطافُ أهملوا هذه القضيَّةِ، وأحجموا عن تقديم المُساعداتِ للمُنظَّماتِ الفلسطينيَّة، نتيجَةَ الإخفاقاتِ المُتلاحِقَةِ التي مُنِيَ العرب بها في معرضِ صراعهم مع الكيان الإسرائيلي، وعدم فعاليَّة أعمال المقاومة التي كانت تُنفِّذها المُنظماتُ الفلسطينيَّة التَّحرُّرِيَّة، وخاصَّةً بعد اتفاق أوسلو عام 1993 الذي وقّع ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. الأمر الذي أتاحَ لإيران أن تدخل جلبةَ الصِّراعِ الفلسطيني – الإسرائيلي من بابه الواسع، بتبنّيها دعم بعض التَّنظيمات الفلسطينيَّة الإسلاميَّة وفي طليعتها منظمتي حماس والجهاد الإسلامي، وعملت على تدريبها عسكريًّا ومدِّها بما يلزم من أسلحَةٍ وخُبراتِ فنيَّة وقتاليَّة، إلى أن تمكَّنت منظمةُ حماس من تنفيذِ عمليَّةِ طوفان الأقصى بحرفيَّةٍ عاليَةٍ وحقَّقت نتائجَ أمنيَّةً لم تكن متوقَّعة، ولكن ردَّة الفعل الغربيَّة أثبتت وبما لا يقبل الشَّك ما كان يُشاعُ أيام الحروب العربيَّةِ الإسرائيليَّة: أن الغرب وفي طليعتهم الولايات المُتحدة الأميركيَّة، يقف خلف الكيان الإسرائيلي وأن الدُّولَ الغربيَّةَ على استعدادٍ للتَّفريطِ بكل علاقاتها مع الدُّول العربيَّةِ والإسلاميَّة كما بسمعتها كدول ليبراليَّة وعدمِ تردُّدِها في خوض الحروب من أجلِه وضمان تفوُّقِه العسكري.
إن الحرب الشَّعواء التي تَشنُّها إسرائيل على غزَّة كما على جبهاتٍ أخرى لن تمكِّنها من حسم المعركة لِصالِحها استراتيجيًّا، بل ستخرج من هذا الصِّراع منقسمة على نفسها وغارقة في خلافاتها الدَّاخليَّة وفاقدةً لجبروتها وعنجهيَّتها؛ والولاياتُ المُتَّحدة الأميركية بقيادتها الهرمةِ وقراراتها المُتردِّدةِ ومن خلفها الغرب بدت فاقدة لجبروتها بعد أن تحطَّمت هيبة أساطيلها في خلجان ومضائق البحر الأحمر على أيدي الحوثيين الذين أثبتوا أنهم قوة يصعُب ترويضُها أو تدجينُها، وسيخرج أركان محور الممانعة مفعمين بنشوة النَّصر رغم الخسائر البشريَّةِ والماديَّةِ الفادحة التي لحقت بالشَّعب الفلسطيني، وستخرج إيران منه ظافرةً بمكانةٍ إقليميَّةٍ مرموقة، وستعتمدُ دبلوماسيَّةً أكثر مرونة تجاه الغرب وأكثر تشدُّداً تجاه جيرانها العرب؛ وستسعى إلى تكريسِ تبعيَّةِ المكونات الشيعيَّة في الدُّول العربيَّة لصالحِ إيديولوجيَّتها العقائديَّة على حساب انتمائهم الوطني والعربي؛ أما الدُّول العربيَّة التي آثرت الوقوف موقف المُتفرِّج من الصِّراعِ مُتخلِّية عن القضيَّة الفلسطينيَّة ستجد نفسها في خِضمِّ صراعٍ آخر نتيجةَ شُعور محور الممانعة بفائض القوَّة، وقدرته على التَّدخُّلِ في شؤونها الدَّاخليَّة، وتحكُّمِهِ بحركة الملاحَةِ في البحر الأحمر، وقد تُضَيَّق عليها مضائقُهُ بقصد الابتزاز السياسي والمالي؛ وستجد نفسها مضطرَّةً لاستجداء الحمايةِ مُجدَّداً ممن تآمروا عليها وتركوها فريسةً لخُصومِها.
وبغضِّ النَّظرِ عن مرتكزاتِ المعادلةِ التي سيبنى عليها وقف الأعمال القتاليَّة بنتيجةِ التَّفاوضِ غير المُباشِر، وما إذا كانت هُدَن مؤقَّتة، أم شبه دائمة، فأن الحلولَ التي يُعمَل عليها لن تدوم طَويلاً لأن الفترةَ الزَّمنيَّةَ التي ستفصلُنا عن المَعركةِ القادِمَةِ ستكون فترةَ استِعدادٍ لمَعركَةٍ مِفصليَّةٍ فاصلةٍ في مآل القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ ومُرتكزاتِ استقرار الشَّرقِ الأوسط مُستقبلاً.
وعليه تحدونا الخشيةِ من أن ينحرفَ الصِّراع القائمِ حاليًّا عن وجهته الأساسيَّة بمجرَّد وقف الأعمال القتاليَّة، بحيث يتحوَّل من صراعٍ ما بين إسرائيل والعرب أو ما بينها وبين إيران إلى صِراعٍ عربي – فارِسي؛ وهذا ما تسعى إليه إسرائيل ومن خلفها الغرب الداعم لها، لأنهم يرون في أيةِ مُناكفاتٍ سِياسيَّةٍ أو مناوشاتٍ عسكريَّةِ ما بين إيران أو أذرعها من جهةٍ وأي من دول الخليجِ العربي عاملاً مساعداً في توسيعِ الشَّرخ ما بين الدُّول العربيَّةِ وإيران ويريح إسرائيل على المدى البعيد، وإذا كان العرب كما إيران في ظل تناحُرهم غير قادرين على هزمِ إسرائيل ولا ثني الغرب عن حِمايتها، فتراهم ميَّالين للتقاتل في ما بينهم عملاً بمقولة «جِحا غير قادر إلَّا على ابن خالته».