الترحيب الأميركي بالغارات الإيرانية على مواقع تنظيم «داعش» في العراق ومقابلة مجلة فرنسية مع بشار الأسد وإعادة فتح السفارة السورية في الكويت، إشارات قد تكون بسيطة وغير مرتبطة ببعضها، لكنها لا تنفصل عن المفاوضات الأميركية – الإيرانية الجارية ولا عن المآلات التي انتهت إليها الثورات العربية.
بعد أربعة أعوام من بداية الثورات، يمكن القول بقدر من الثقة أن موازين القوى الاجتماعية والداخلية في العالم العربي قد مالت إلى غير مصلحة التغيير العميق الذي تتطلبه الثورة كمفهوم ومسار. انحازت أكثرية المصريين إلى الخيار السلطوي المألوف ورفضت مغامرات «الإخوان المسلمين» وتبنى التونسيون خياراً مشابهاً مع بعض التحسينات، وغرقت ليبيا في صراعاتها الجهوية والقبلية، فيما وقع اليمن في قبضة النفوذ الإيراني الذي يسيّر ممثلوه وضباطه يوميات الحرب في سورية.
تركت الثورات آثاراً عميقة على المجتمعات العربية ولن تُمحى من الذاكرة قريباً لا صور الملايين المحتشدة في الميادين مطالبة بالكرامة والعدالة ولا صور زبانية الأنظمة الذين صوبوا أسلحتهم إلى صدور المتظاهرين العزل. ستظل مفارقات الثورات العربية وتناقضاتها ومصائر المشاركين فيها حاضرة في وعي الشعوب العربية على امتداد عقود طويلة. وستظل كذلك الإخفاقات الكبرى لهذه الثورات في نقل المجتمعات نحو سوية أرقى اجتماعياً وسياسياً، من الدروس الكبرى في فهم مجتمعاتنا وشعوبنا وطرقها في تحديد مصائرها وتصوراتها للمصائر هذه.
يجوز إلقاء اللوم على قسوة الظروف المحيطة بالثورات التي وقعت في زمن أزمة عالمية تمثلت في غياب القيادة والانكفاء إلى أضيق التعريفات للمصالح الوطنية، على ما ظهر من تعامل القوى الدولية مع آمال الشباب العرب.
ويصح كذلك النظر إلى عجز الثورات عن تحقيق شعاراتها الأولى من خلال ضراوة التدخل الخارجي، الأميركي والإيراني والتركي، وإلى تعارض قيام دولة عربية ديموقراطية وحديثة مع المصالح الإسرائيلية (على ما يُفهم من التمسك الإسرائيلي بالأسد ونظامه). بيد أن تاريخ هذه المنطقة هو سلسلة من التدخلات الضارية والصراعات التي لم يبدِ أي طرف منها وعلى امتداد الأجيال، أي رحمة أو رأفة بأعدائه.
وليس الترحيب الأميركي بالغارات الإيرانية أو المقابلة مع الأسد وسواهما إلا من العلامات على بدايات تطبيع دولي مع الوضع القائم بذريعة أن العالم الذي لم يساعد على نجاح الثورات العربية، لن ينتظر وقتاً أطول لظهور نتائجها وأنه على استعداد لاستئناف سيرته الأولى من التعامل مع الأمر الواقع والحوار مع «الشيطان الذي نعرفه» بغية استخراج الفوائد المرجوة منه.
وسيان، من هذا المنظور، أن يكون النظام الإيراني قد سيطر على العراق واليمن ولبنان وسورية أو أن تكون أيدي مسؤولي النظام السوري ترشح دماً من مئات آلاف الضحايا الذي سقطوا في ملحمة المقاومة الأسطورية لحكم الأقلية العائلية المسلحة.
ولا تحرك صور الأطفال الذي قضوا تحت أنقاض مباني حلب ببراميل الممانعة مشاعر أحد في «المجتمع الدولي»، ولا تقول معاناة ملايين السوريين الذين قُطع عنهم الغذاء في مخيمات الشتات شيئاً لعالم بارد لا يرى إلا بعيني مصالحه وعلى استعداد دائم للتحالف مع من يحميها ويوفرها.
في المقابل، إذا كانت هذه الثورات قد كشفت هول الخراب في مجتمعاتنا ومدى نفاق ولامبالاة العالم، فذلك سيكون مقدمة لأنواع جديدة من الحراك والاعتراض اللذين سيستمران لآماد طويلة.