في أفغانستان، كان ثمّة «تحالف شمال» منزوٍ في وادي بانشير بعد انتصار حركة «طالبان» الباشتونية المتشدّدة على الفصائل الطاجيكية والأوزبكية، ثم استفاد هذا «التحالف» من الحرب الأميركية على «طالبان» وحلفائها من «الأفغان العرب»، ليدخل مجدّداً العاصمة كابول.
هذا النموذج الأفغاني يبقى على كثرة تعقيداته أوضح وأكثر بساطة من النموذج السوري. في سوريا، المساوي «الموضوعي» لـ»تحالف الشمال»، أي الفصائل المسلّحة التي تمثّل بشكل أو بآخر تركة الثورة السورية، واقعة ما بين نار تنظيم «داعش» ونار النظام السوري، وليس ناراً واحدة كما في حالة المنزوين في وادي بانشير، لكنها في المقابل فصائل استمرّت منتشرة في شمال البلاد وجنوبها، وحافظت على مواقعها الحيوية سواء على جبهة حلب أو على جبهة دمشق. طبعاً يدخل في قيد التشابه مع «تحالف الشمال» أن تصفية القائد الكاريزمي الأفغاني أحمد شاه مسعود تكرّرت سورياً في غير موضع، كلّما كان الميدان يتّجه لفرز أحمد شاه مسعود سوري، وهو ما تكفّل به النظام حيناً، وتنظيم «داعش» حيناً آخر.
في أيلول من العام الماضي، يوم أزمعت الولايات المتحدة على الحرب، وقبل أن تحجم، كانت هناك فرصة أكبر لتكرار شيء من النموذج الأفغاني، بحيث إن المساوي الموضوعي لـ»تحالف الشمال» الأفغاني في سوريا كان عليه الاستفادة من الضربات الموجّهة للنظام لمحاولة التمدّد على حسابه، وهو ما حدث في الحالة الليبية أيضاً، مع فارق أساسي، وهو انشطار ليبيا، منذ الأيام الأولى للثورة على العقيد القذافي، بين شرقها وغربها، وتوالي موجات من التقدّم والتراجع لشهور بين المعسكرين.
في الحالة التي أمامنا اليوم، وإذا ما أدّت الضربات لتراجع نفوذ «داعش»، يطرح السؤال رأساً من سيملأ هذا الفراغ؟ فبصرف النظر عن امتناع أميركا عن التنسيق مع النظام لضرب «داعش»، وقيامها بالتنسيق مع جهات معارضة وثائرة على النظام، فللميدان، وملء الفراغ في حال حدوثه، ترتيب آخر. فما هي السياسة الأميركية والاحتياطات المتخذة تجاه عدم استعادة قوات النظام نفوذها في المناطق التي قد تخليها «داعش»؟ قبل سنة أو سنتين، كانت المسألة أن النظام يفضّل إخلاء منطقة لهذا التنظيم، على أن يخليها لقوة أقل تطرّفاً، فماذا عن «داعش» اليوم؟ لمن تسلّم مواقعها في الشمال السوري مثلاً إن كان عليها «تقليص الجبهة» والانكفاء، ولو إلى حين؟ إلى أي حد سيعطي ذلك لـ»داعش» القدرة على ابتزاز الطرفين، «تحالف الشمال السوري» والنظام؟
ندخل هنا في كمِّ الأسئلة المهمّشة، سواء في استبشارات البعض بأنّ «التنظيف» آتٍ، أو في تسليم البعض الآخر بأنّ «شيئاً جوهرياً لن يتغيّر»، وسواء ذهب أحدهم إلى أن ضرب «داعش« ليس لمصلحة النظام، أو قال آخر بخلاف ذلك.
انكفاء «داعش» من مناطق بعينها، سيفتح على الأرجح الباب لتقاتل القوى المسلّحة الأخرى لملء الفراغ، وهذا التقاتل ستعود فتحاول «داعش» الاستفادة منه ثانية للتمدّد مجدّداً، في فترة تكون فيه العاصفة الصاروخية الأميركية قد خفّت.