لم يعرف أبناء القرى على طول الحدود الشمالية من وادي خالد إلى معبر العريضة أياماً أسوأ من التي يعيشونها منذ مدة. فوضى عارمة وفلتان أمني وانتشار المخدرات وتجارة سلاح وفرض خوّات وعصابات مسلحة تعمل في تهريب الأشخاص والسلع ولا تتوانى عن القتل، حوّلت أبناء تلك القرى إلى رهائن لدى من أطلقوا على أنفسهم لقب «أسياد الحدود»، في غياب تامّ للأجهزة الأمنية، وتواطؤ بعضها
على طول الشريط الحدودي من بلدات وادي خالد والمشاتي وشدرا، وصولاً الى الدريب الأوسط في منجز والعوينات، والدبابية، والنورا… الحكم هنا لـ«الزعران» والعصابات المسلحة التي تتحكم بالأرض. منذ بداية الأزمة السورية، في آذار 2011، حلّت «اللعنة» على البلدات الحدودية التي عانت، بداية، جراء القصف السوري المتكرر الذي طاول قرى وبلدات استخدمت لتسلل المجموعات المسلحة والتكفيرية الى الداخل السوري، وسقوط عشرات القتلى والجرحى أثناء محاولات الجيش السوري ضبط الحدود وتزنيرها بالألغام لمنع عمليات التسلل. لاحقاً، مع عودة الأمن الى البلدات السورية المحاذية للقرى الشمالية، خرجت الأمور عن السيطرة كلياً على المقلب اللبناني. بعدما كان تهريب السلع، قبل الأزمة، مصدر عيش سكان معظم هذه المناطق، امتهن كثيرون تجارة البشر والممنوعات، في عمليات تجري في وضح النهار بتنسيق بين المهربين على جانبَي الحدود! ويسلك المهربون معابر: شهيرة ـ خط البترول، وادي الواويات، قرحة، النبي بري في أكروم، العويشات، تل الفرح… علماً بأن أخطر المتسللين، وفق مصادر مطلعة، هم من الريف الشمالي في إدلب ومن دير الزور والقامشلي. ومعظم هؤلاء مطلوبون يتسللون عبر الحدود ويجولون في مختلف المناطق من دون أي رقابة، ولا يُستبعد أن يكون بعضهم مكلّفاً القيام بعمليات رصد أو ربما حتى عمليات أمنية.
وزادت الأزمة الاقتصادية منذ عام 2019 الطين بلّة في منطقة تتجاوز نسبة البطالة فيها 40%، ليس فقط لأن كثيرين من شبانها مكتومو القيد ولم يحصل بعضهم على الجنسية اللبنانية حتى عام 1994، وإنما أيضاً بسبب مزاحمة النازحين السوريين لأهالي المنطقة من أصحاب المهن الحرة والمؤسسات. إذ يقارب عدد النازحين السوريين عدد أبناء وادي خالد البالغ 40 ألف نسمة.
«أسياد الحدود»، كما يسمّون أنفسهم، هم من يتسيّدون فعلاً في كل القرى الحدودية، وبات «فائض القوة» الذي يتمتعون به سبباً لاشتباكات يومية في ما بينهم تؤدي الى سقوط قتلى وجرحى. ويكاد لا يمرّ يوم من دون عمليات قتل، وسلب وتشبيح، واختطاف، والهجوم على القرى والمنازل بشكل عشوائي. قبل أسابيع، اندلعت اشتباكات بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة في وادي خالد، بين آل الصاطم واليوسف، استمرت أياماً، سجنت الأهالي في منازلهم وسط مناشدات للجيش بالتدخل. سقط قتيل وعدد من الجرحى قبل أن تتدخل فاعليات عشائرية وسياسية للملمة الأمور وإجراء مصالحة على مبدأ «تبويس اللحى». تلى ذلك اشتباك مسلح بين المهربين، ثم إطلاق نار على دورية للجيش، ما أدى الى استشهاد عسكري وجرح آخر، فاشتباك مسلّح بين المهربين في المنطقة الفاصلة بين وادي خالد وجبل أكروم أدى إلى مقتل امرأة بعد عبورها الحدود. ويتناقل الأهالي روايات عن عمليات اغتصاب لنساء مقابل تهريبهن وعن نقل مخدرات بواسطة نساء يعبرن الحدود بطريقة غير شرعية. ويشير أحد مشايخ الوادي الى «ظواهر جديدة لم نعرفها سابقاً وتنافي أخلاقنا وعاداتنا كعرب».
«الفلتان في المنطقة الحدودية غير مسبوق، والأمور تخرج عن السيطرة، وكل حديث عن ضبط المعابر كذب وتضليل»، يقول أحد أبناء الوادي، مؤكداً أنه «يستحيل ضبط المعابر لأن هناك معبراً كل متر، نقل الأشخاص وتسلل المسلحين وتجارة الممنوعات وتهريب الدخان والتشبيح وفرض الخوات أمور اعتيادية على طول الشريط الحدودي الممتد على مسافة 35 كلم. لكن الخطير هو تضارب المصالح بين المجموعات، ما ينعكس أعمال قتل واعتداء وإطلاق نار على المنازل. وأدّت لعبة السياسة القذرة والتراخي الأمني والقضائي الى استفحال المشكلة، وتحويل منطقة وادي خالد الى صفيح ساخن قد ينفجر في أي لحظة نتيجة السطوة التي باتت للمهربين وعدد من العائلات والعشائر»، مؤكداً أن أحد نواب المنطقة «متورّط في تغطية مجموعات من الخارجين عن القانون ممن يمتلكون تسهيل مرور باسمه. وعند توقيف أحدهم، يمارس ضغوطاً على القضاء والأمن لإطلاقه، ويقوم بدفع الديّة ورعاية المصالحات لدى وقوع إشكال مسلح وسقوط قتلى».
صراع المهرّبين و«الثوار»
وإلى الاشتباكات بين المهربين بسبب الخلاف على «الخوّات» و«السيادة» على المعابر، تُسجّل أيضاً اشتباكات بينهم وبين مجموعات من «الثوار» ممن يدّعون الاعتراض على أعمال التهريب، فيما تؤكد مصادر مطلعة أن «الخلاف هو على الحصص»، وهو ما يؤدي إلى اشتباكات، وقع آخرها قبل أسبوع في بلدة الدوسة عندما أحرق مهربون «موتوسيكلات» لـ«ثوار» من بلدة عمار البيكات، ما أدى الى اشتباكات تجددت قبل يومين وأدّت الى سقوط عدد من الجرحى.
يتحدث رئيس بلدية العماير أحمد الشيخ عن «التجارة البينية» التي كانت ناشطة عبر الحدود الشمالية قبل عام 2011، مؤكداً أنه «لطالما كانت سوريا بالنسبة إلى أبناء الوادي الأمّ الحنون يوم أدارت الدولة اللبنانية ظهرها لنا». يشير الشيخ إلى أنه بعد الأزمة السورية، «سُجّلت 200 حالة بتر أرجل عقب تزنير الجيش السوري الحدود بالألغام. وبعد جائحة كورونا وإغلاق الحدود الرسمية بين البلدين، عادت حركة عبور الأفراد بطرق غير شرعية إلى النشاط، إذ إن كثيرين من السوريين يدخلون إلى لبنان نهاية كل شهر لتسجيل بصمة العين لدى المنظمات الدولية من أجل تلقّي مساعدات منها. حركة الأفراد غير الشرعية نشّطت عمل المجموعات المسلحة التي تتناحر في ما بينها على السلطة».
وحمّل الشيخ مسؤولية الفلتان أولاً للأجهزة الأمنية الغائبة كلياً عن المنطقة، وثانياً، للسياسيين الذين يتدخلون لمصلحة المهربين وأصحاب السوابق ويؤمنون لهم سيارات ورخصاً، لافتاً إلى أن منزله تعرض لإطلاق نار قبل أشهر، و«بعدما تقدمت بشكوى، فوجئت بخروجهم بعد أيام من السجن بسبب تدخل نافذين من أبناء المنطقة». ويسأل الشيخ: ««لماذا لا تفعَّل كاميرات المراقبة التي وضعها الألمان على الحدود، ولماذا لا ينتشر الجيش في المنطقة لضبط الحدود؟»، مؤكداً «ضرورة التنسيق مع الجانب السوري لفتح الحدود بين البلدين ما يخفف من حركة العبور غير الشرعية».
والوضع نفسه ينسحب على بلدات شدرا والعوينات ومنجز الدبابية والنورا، حيث يستبيح المهربون المنازل والممتلكات الخاصة لإمرار زبائنهم وتسهيل أعمالهم التجارية. قبل يومين، مثلاً، سجل اشتباك مسلح بين المهربين عند المعابر الحدودية لمجرى النهر الكبير مقابل بلدة الدبابية، ما أدى الى سقوط جريح من بلدة عمار البيكات وجرح آخرين. وفيما أُعلن أن الجيش السوري أطلق النار على متسلّلين وأوقع عدداً من الجرحى، إلا أن الحقيقة مغايرة تماماً لذلك.
مصادر أمنية أكدت لـ«الأخبار» أن ما يجري على الحدود الشمالية بات يشكل قلقاً كبيراً وتحدّياً لهيبة الدولة. وتؤكد المصادر الأمنية «أننا نعمد إلى توقيف المهربين، لكننا نفاجأ بخروجهم بعد أيام، بضغوط سياسية وعودتهم إلى ممارسة أعمالهم بسبب الغطاء السياسي الممنوح لهم، ما يؤدي الى حالة من القرف والسخط لدى العناصر الأمنية».
«ليس الفقر والإهمال وغياب الخدمات ولا انتشار السلاح أموراً طارئة على البلدات الحدودية، لكن عوامل عدة ساهمت في السنوات الأخيرة في تفاقمها جميعاً وتسببها في انفلات أمني ليس من الصعب ضبطه متى اتخذ القرار لدى الأجهزة الأمنية»، وفق ما تؤكد فعاليات في المنطقة الواقعة في محاذاة النهر الكبير الجنوبي الفاصل بين لبنان وسوريا.