ليس صحيحا أن الحزب والحركة، أبلغا إيران بأنهما لم يعد قادرين على الإستمرار في مواجهة إسرائيل، فكان أن سرّع ذلك في وقف إطلاق النار بلبنان. وليس صحيحا أيضا، وبالموازاة، أن قادة الجيش الإسرائيلي، كانوا قد أبلغوا نتنياهو، أن الحرب في لبنان، قد حملتهم حملا ثقيلا، وأن الألوية قد أنهكت في غزة، وأنها قد أثخنت جراحا في لبنان، وأنهم يحتاجون إلى فترة الستين يوما، حتى يرتاحوا، فتتبصّر الحكومة الإسرائيلية خلالها، ما إذا كانت تريد التسوية مع لبنان، أو هي تريد إستئناف الحرب.
نزعم أنه، لا هذا ولا ذاك صحيح، بل إن قرار وقف الحرب، كان أميركيا بحتا، وقد زيّنته الإدارة الإميركية المرتحلة لإسرائيل ولإيران، ومن ورائها للحزب وللحركة، بطريقة ذكية للغاية، قبل التسلّم والتسليم في 20/1/2025.
فتحت أميركا الحرب على النظام السوري في البرهة المناسبة، كانت الخطة مدروسة للغاية بين أميركا وتركيا وروسيا: لا بد من طرد إيران وحزب لله، من الشمال السوري، حيث حقول النفط والغاز، وحيث معابر التهريب، من إيران إلى حلب وحماه واللاذقية وطرطوس، إلى لبنان، وحيث القواعد العسكرية الإيرانية ومخابئ الأسلحة، وحيث التمدد العميق لحزب لله. فكان أن أطلقت الإدارة الأميركية الراحلة، الصفارة، وفتحت البوابة للفصائل الإسلامية، بعد أن أمضت فترة طويلة وهي تمرّنها على السلاح الجديد، وعلى النوعية السريعة للعمليات العسكرية، وكيفية إسقاط الجبهات قبل الوصول إليها وإحتلالها.
كان إشتعال النار بسوريا، قرارا أميركيا بحتا. أما أطرافه، فهي في تركيا وروسيا وإسرائيل: يريد إسقاط إيران في سوريا وإبعادها عنها. فيسقط معها محور وحدة الساحات، ومحور الممانعة، وتتوقف عمليات تهريب الأسلحة.
مهّدت إسرائيل للقرار الأميركي، بضرب جميع المعابر والجسور بين لبنان وسوريا. ومنحها قرار وقف إطلاق النار، فرصة تاريخية لم تتسنَّ لها من قبل: التدخّل لحماية نفسها، حيثما تجد حاجة لذلك. فالقرار أطلق يدها في لبنان، ولذلك بادرت للقبول به، والاشتغال على الجبهة السورية، للبحث عن مخابئ الأسلحة ودروبها وتجارها.
الأغراض الأميركية في سوريا واضحة: حماية قواعدها العسكرية، ووضع يدها على جميع حقول النفط والغاز في الشمال السوري، وإبعاد النظام وإيران عنها.
والأغراض الإسرائيلية في الشمال السوري، واضحة هي أيضا: وضع يدها على مخابئ اللأسلحة الإيرانية لحزب لله، وجعل دروبها ومطاراتها كلها في عنايتها، وتحت المراقبة.
والأهداف التركية هي أيضا واضحة: فهي تريد منطقة عازلة في الشمال السوري، تؤمّن لها الاستقرار والأمن والسيادة المطلقة هناك، فلا تهديد لها، لا من النظام وميليشياته، ولا من حكومة «قسد» وسائر الميليشيات الكردية، التي لا تنام إلّا وتفكّر بها.
أما الأكراد السوريون، في عين عرب وفي سائر المناطق ذات الصلة بها في الشمال السوري، أو في العراق، فهم أيضا لا يتورعون عن التخويض بالنيران، دفاعا عن مكتسباتهم، التي حصلوا عليها، منذ الربيع العربي. ذلك أن مصلحة الأكراد واحدة، في جميع المناطق التي يتواجدون فيها: في تركيا وفي إيران وفي العراق وفي سوريا. وهم أكثر ما يتشوّقون للحكم الذاتي، الذي لم يلاقوا له داعما، إلّا في أميركا وحدها. ولهذا وجدوا مصلحة لهم في الأخذ بإشاراتها، والسير بإملاءاتها، بإعتبارها الحليف القوي، لمواجهة جميع الأطراف التي تريد محاصرتها والنيل منها.
أما روسيا، فقد وجدت أن إيران تزاحمها في سوق النظام، وهي التي رعته، منذ أوائل الإستقلال، حين إنشق عن الأميركيين، وصار يدير أذنه الطرشاء لهم، كلما وجد مصلحة له، في الابتعاد عن سياساتهم المترددة والمتلوّنة. وها هي إيران ترسم له طريق السلم والحرب، وتخضعه لدوراتها، وتلزمه بإفراد مناطق نفوذ خاصة بها. فرأى في إشعال النار في الثوب السوري، فرصة له، لإبعاد النفوذ الإيراني عن القصر الجمهوري، مما يجعل النظام أصدق نيّة معه لتنفيذ سياساته، والسير في أجندته التي يعدّها. وهو لذلك يكتم ما في نفسه، ولا يتحمّس لنجدة النظام، بل يفضّل الجلوس الآن، على الضفة.
حقيقة، وجدت الفصائل الإسلامية فرصتها الذهبية لإسترداد كرامتها، بعدما كان حزب لله قد أنهكها، وبعدما كانت إيران تناور معها، ولذلك نراها كيف تندفع في الشمال السوري، من البوابة التركية، وتجتاح حلب وجميع المناطق المحيطة بها، ثم تسرع لإسقاط حماه، ووضع جميع خطوط المواصلات تحت رقابتها. وهذا ما يجعل النظام السوري، أكثر طواعية لرغباتها، إذا ما وضعت الحرب أوزارها.
إشتعال النار بسوريا، كان على التوقيت الأميركي، في «الوقت الميت»، وهو الفترة الممتدة من مطلع كانون الأول 2024، حتى العشرين من كانون الثاني 2025، بين رئيس تنتهي ولايته، وبين رئيس لم تبدأ ولايته بعد. وقد وجدت الإدارة الأميركية، أن هذا الوقت مثاليا، لإعادة النظر في جميع أوراق الشرق الأوسط وأوكرانيا. ولهذا، سارعت وأشعلت النار بسوريا، بالتنسيق مع الأطراف جميعا: الأحلاف منهم والخصوم. فهذه الفترة الواقعة، بين ولايتين: أصلح ما تكون للإدارة الأميركية. فتقدم على ما تقدم عليه، دون أن تتحمّل تبعات الحرب والسلم، بل ترحّل التبعات لعهد الرئيس دونالد ترامب، القادم على صهوة جواده في العشرين من كانون الثاني 2025.
إشعال النار بسوريا، مثل تأجيج النار في أوكرانيا، غرضها إغراق الإدارة الأميركية الجديدة بالأزمات، وإلى أن يصل الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض، فإننا لنأمل أن يتبيّن لنا الخيط الأبيض، من الخيط الأسود في ثوب سوريا، إذا ما بقي لها ثوب يستر عوراتها.