IMLebanon

لا إسقاط كاملاً للاتفاق النووي ولا حرباً واسعة؟

 

المشرق العربي أمام استحقاقين كبيرين. قرع طبول الحرب بين إسرائيل وإيران لم يتوقف. العناصر والشروط والظروف لهذه المواجهة الكبرى بين الدولتين نضجت. وحملة الرئيس دونالد ترامب على الاتفاق النووي في جولتها الأخيرة. وبدأ العد العكسي للقرار المفصلي. الأيام المقبلة تنذر إذاً بانعطافة كبيرة. الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش حذر من أن المنطقة في وضع خطير جداً. وألح على وجوب إجراء حوار بناء بين جميع اللاعبين المعنيين. في تل أبيب ارتفعت وتيرة الأصوات العسكرية والسياسية المنادية بوجوب ضرب التمدد الإيراني في سورية بعد لبنان والعراق. ترى النخبة الحاكمة في الدولة العبرية إلى هذا التمدد تهديداً وجودياً، وخطاً أحمر لا يمكنها تالياً التساهل حياله أو التغاضي عنه. لذلك لم تتردد الآلة العسكرية الإسرائيلية، منذ اندلاع الأزمة السورية عن توجيه عشرات الضربات الجوية والصاروخية لأهداف وقواعد ومجموعات على صلة بالوجود الإيراني في بلاد الشام. وهي تعيش منذ إغارتها على مطار «تي فور» ومقتل جنود من «الحرس الثوري» في إحدى منشآته في حال استنفار. قادة الجمهورية الإسلامية هددوا بالثأر. وكانت ضربتها الأخيرة في ريف حلب ومنشأة صاروخية للحرس في مخازن اللواء السوري 47 في ريف حماة، بمثابة استباق لما كان يعد لها. هذا على الأقل ما كشفته دوائر عسكرية وديبلوماسية عدة.

 

 

ثمة ما يشبه الإجماع على أن المواجهة بين إيران وإسرائيل حتمية لا مفر منها. لكن قراءة منطقية ودقيقة للأوضاع في كلا البلدين وللظروف المحيطة في الإقليم لا تقدم حوافز لاستعجال مثل هذا الاستحقاق. الدولة العبرية في وضع استراتيجي دولي مريح، فعلاقاتها مع الولايات المتحدة في أرقى درجات التنسيق والتناغم، وكذلك مع روسيا. ومثل ذلك وضعها على مستوى الإقليم أيضاً. فخصومها الفلسطينيون والعرب عموماً لا تحتاج أوضاعهم وظروفهم إلى شرح. فلا حاجة ملحة إذاً إلى حرب واسعة مع الجمهورية الإسلامية وأذرعها في المنطقة وصواريخها المخزنة من العراق إلى لبنان. فهي تعلن صراحة أنها ستنقل النار إذا اندلعت إلى قلب الجمهورية وأراضيها إذا تلقت بعض هذه الصواريخ. ولن تكتفي بمقارعة حلفاء طهران في الأراضي السورية واللبنانية والفلسطينية… وفي المقلب الثاني، لا مصلحة للقيادة الإيرانية في شن حرب واسعة، فيما تخوض مواجهات ومعارك ميدانية على أكثر من جبهة، في اليمن والمشرق العربي عموماً، تستنزف جهودها واقتصادها وتشتت قواها. مثلما تواجه ضغوطاً دولية واسعة تقودها الولايات المتحدة لتعديل الاتفاق النووي، وإرغامها على تغيير سلوكها وسياساتها في الشرق الأوسط وفرض قيود على برنامجها الصاروخي. ولا تخفي مشاعر الريبة من احتمال تخلي حليفها الروسي عنها إذ قد يجد فائدة في تقليص نفوذها في بلاد الشام. كما أن نقل إسرائيل النار إلى داخل إيران، في ظل أوضاعها المضطربة، وانخراط الولايات المتحدة في صورة ما في هذه الحرب لمساعدة حليفتها الاستراتيجية، يهددان النظام وبقاءه. وربما شجعا أطرافاً داخلية وخارجية على خطوات تغيير كبرى.

 

لكن هذه المعطيات المنطقية قد لا تحول دون دوافع البلدين إلى المواجهة. إسرائيل التي تكرر كل يوم أنها لن تسمح لإيران بترسيخ أقدامها على الحدود الشمالية وفي عموم سورية، وتكيل لها اتهامات بإخفاء برنامجها النووي، تهدد بأنها لن تسمح لها بتهديد وجودها. وقد تفيد من موقف إدارة ترامب المؤيد لتقليم نفوذ طهران وإصرارها على منعها من امتلاك القنبلة النووية. مثلما تفيد من فرصة العداء المستحكم بينها وبين عدد واسع من الدول العربية. أما الجمهورية الإسلامية التي تستشعر التهديدات الجمة المحيطة بها فقد تلجأ إلى حرب استباقية مع الدولة العبرية. مثل هذه الحرب توفر لها الهروب إلى أمام من استحقاقات داخلية كثيرة. وتعيد رص الصفوف بين قواها ونخبها وتياراتها المختلفة والمتصارعة. وتستعيد بعض ماء الوجه بعد الغارات الإسرائيلية التي تبدد صورتها وصدقيتها، وتسخر من تصريحات بعض قادتها العسكريين بإلغاء الدولة العربية من الوجود في بضع ساعات! كذلك قد يكون الرئيس بشار الأسد راغباً في مواجهة تعيده طرفاً في المحافل الدولية والنشاط الديبلوماسي الأممي المواكب لوقف التدهور وتداعياته الإقليمية.

 

والواقع أن كثيرين يتخوفون من وقوع المواجهة بعد الانتخابات النيابية اللبنانية التي تراهن طهران على أن يحصد فيها حلفاؤها مقاعد تتيح لهم التحكم شرعياً بسلطة القرار. كما أن خيار إيران وحلفائها، خصوصاً «حزب الله»، كان ولا يزال فتح جبهة الجولان التي ستحولها قاعدة مماثلة لجنوب لبنان. في حين يعتقد السوريون أن مثل هذا الخيار سيستكمل تدمير ما بقي من عمران في جولة كبرى من الحرب المستمرة من نيف وسبع سنوات. وربما أدت إلى هز أركان النظام. من هنا قرأ بعضهم إلحاح روسيا على توفير شبكة أمان واسعة تحيط بالعاصمة، خوفاً من استغلال الفصائل الإسلامية الانشغال بالمواجهة مع إسرائيل للانقضاض على دمشق. لذلك كانت حرب الغوطة الشرقية وموجات ترحيل هذه الفصائل من شرق العاصمة وجنوبها. إلى ذلك لن تلتزم تل أبيب بـ «خيار» جبهة الجولان، ستنتهز الفرصة لتوسيع ميدان الحرب إلى جنوب لبنان وقواعد «حزب الله» وترسانته.

 

إذا كان الطرفان الإسرائيلي والإيراني لا يرغبان في حرب واسعة، فهل ثمة خيار آخر؟ ربما هناك احتمال ضئيل لبديل يترجم بسلسلة من المعارك الموضعية، على غرار الغارة على مطار «تي فور» أو ضرب مخازن الصواريخ قبل أيام جنوب حماة، أو عملية محدودة ضد موقع إسرائيلي يخلف قتلى. لكن هذا البديل قد لا يؤدي إلى النتائج التي يتوخاها المتصارعون من حرب أكبر وأوسع. حتى فتح النظام وحليفه الإيراني جبهة شمال شرقي سورية قيد لا يفي بالغرض. فالرئيس ترامب الذي كرر نيته سحب جنوده من هذه المنطقة، أكد بعد قمته مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون أن مثل هذا الانسحاب لا يعني إخلاء الطريق أمام الجمهورية الإسلامية للوصول إلى شاطىء المتوسط. ما يريده هو أن يساهم الشركاء الأوروبيون والحلفاء العرب في ملء الفراغ وأن يساهموا في تكاليف حماية هذه المنطقة. وشدد على أن بلاده ستكون حاضرة دائماً في سورية. وهذه رسالة إلى طهران وموسكو أيضاً التي تجد نفسها اليوم معنية بمنع وقوع حرب واسعة بين إسرائيل وإيران، وإن بدت صامتة حيال تنفيذ تل أبيب ضرباتها المتكررة في عمق الأراضي السورية. وقد يكون إعلان وزير الخارجية سيرغي لافروف استعداد بلاده للتعاون مع الولايات المتحدة والأردن لمواجهة «الإرهابيين» في الجبهة الجنوبية، توجيه رسالة واضحة إلى إيران والنظام في دمشق أن الكرملين ملتزم التهدئة في هذه الجبهة. مثلما هي رسالة طمأنة إلى إسرائيل التي طالبته برد الجميل ومراعاة مقتضيات أمنها ومصالحها، بعدما رفضت الانضمام إلى حلفائها في فرض عقوبات على روسيا.

 

أربك رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الدول الأوروبية حيال ما سماه «البرنامج النووي السري» لإيران متهماً إياها بـ «الكذب». وعلى رغم تأكيد الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن هذه لم تنتهك الاتفاق النووي، إلا أن تصعيده الخطاب ضد طهران يصب مزيداً من الزيت على الموقف المنتظر من الرئيس ترامب بعد أيام من الاتفاق النووي. علماً أن دوائر كثيرة تتوقع أن يعطي الرئيس الأميركي شركاءه الأوروبيين مهلة جديدة لتقرير استراتيجيتهم حيال الاتفاق وسياسات طهران. ذلك أن الخروج من الاتفاق نهائياً سيؤدي إلى انهياره، وسيدفع إلى إيران إلى إعادة العمل ببرنامجها النووي، وتفعيل حروبها بالوكالة في الإقليم كله… وهذا ما سيعجل في المواجهة الواسعة. فهل يقرر ترامب الانسحاب الجزئي من الاتفاق ريثما يتوافر بديل آخر، كما تمنى الأمين العام للأمم المتحدة؟ وهل تتجنب إسرائيل وإيران المواجهة الواسعة وتكتفيان بوضع الإصبع على الزناد؟ إنه المخرج الوحيد الذي يجنب الشرق الأوسط وسورية خصوصاً حرباً مدمرة لا تبقي ولا تذر.