يتوازى الإعداد لإقامة منطقة آمنة أو منطقة عازلة في شمال سورية مع تزايد الضربات الإسرائيلية لمواقع إيرانية ولأخرى «مشتركة» مع النظام. وعلى وقع مواجهات وصدامات عسكرية يجري فرز داخل قوات النظام بين الولاء للروس والولاء للإيرانيين وسط توتّر متزايد في منطقة الحدود السورية – العراقية، فيما تبدّل المزاج الشعبي والهدوء النسبي في إدلب بسبب المخاوف من مخاطر سيطرة «هيئة تحرير الشام/ جبهة النصرة سابقاً» وانعكاساتها على معظم المحافظة… كل ذلك لا يعني شيئاً آخر غير أن سورية ليست متجهة بعد الى نهاية قريبة لمحنتها، بل لم يعد واضحاً أبداً كيف ستنتهي، إذ أن انحسار العمليات القتالية الرئيسية وانحسام الوضع الميداني لمصلحة روسيا وايران لم يبلورا فرصاً حقيقية لإنعاش النظام وإعادة تأهيله، بل أطلقا تنافساً جديداً على مناطق النفوذ ازداد حدّةً بفعل الانسحاب الأميركي المزمع وتعاظم الدورَين التركي والإسرائيلي بتنسيق علني أو سرّي مع روسيا.
الفارق معروف بين منطقة آمنة ومنطقة عازلة. الأولى اقترحتها واشنطن على أنقرة مستعيدة عرضاً قدّمته تركيا في 2013 ولم توافق عليه الإدارة الأميركية السابقة بحجة أنها تستدعي حُكماً إقحام حلف الأطلسي وبالتالي تستفزّ روسيا التي لم تكن قد تدخّلت بعد
في سورية.
أما إعادة الفكرة الى الطاولة فتفترض اشرافاً ومشاركة اميركيين في منطقة آمنة يمكن أن يوجد فيها الأتراك بعمق 30 الى 32 كيلومتراً. لكن أين الروس من هذا المشروع؟ يروّج رجب طيب اردوغان أن أنقرة ستعمل مع روسيا وإيران من جهة، مع الاميركيين من جهة أخرى.
ليس مؤكّداً أنه سيتمكّن من جمع هؤلاء الغرماء معاً. لدى موسكو اقتراح ظاهره أقلّ تعقيداً إلا أن تطبيقه قد يكون متعذّراً، إذ تقترح شريطاً حدودياً يتحرك في الأتراك بعمق لا يزيد عن 10 كيلومترات بموجب اتفاق أضنة المبرم عام 1989 بين الحكومتين التركية والسورية. في المقابل يستعيد نظام دمشق مجمل شمال شرقي سورية بالتوافق مع أكراد «قوات سورية الديموقراطية» (قسد).
بالنسبة الى موسكو يوفّر إحياء اتفاق أضنة تغطية قانونية للوجود التركي لئلا تواصل دمشق اعتباره غير شرعي ومنتهكاً للسيادة، كما أنه يوجب على طرفي الاتفاق إنهاء القطيعة بينهما والعمل معاً وعدم قصر تواصلهما على القنوات السرّية. لكن تركيا تعتبر أن أتفاق أضنة لا يزال سارياً ويعطيها حق التصرّف في المنطقة الحدودية «بضمانٍ روسي» نظراً الى عدم أهلية النظام للقيام بما يتوجّب عليه. وقد ردّت دمشق متّهمة أنقرة بانتهاك الاتفاق وبأن تفعيله يتطلّب سحب تركيا أي قوات لها في الشمال والامتناع عن دعم «المجموعات الإرهابية» وتمويلها وتسليحها.
أما الأكراد، وهم الطرف الذي عقّد مشكلة شمال شرقي سورية، فرفضوا «منطقة آمنة تركية» وطالبوا بمنطقة حدودية عازلة يشرف عليها الاميركيون أو قوات فصل تابعة للأمم المتحدة. هذا الاقتراح يبقي حلمهم بـ «دولة» أو «كيان خاص» بهم، ألا أنه يتطلّب استعداداً غير متوفّر لدى المجتمع الدولي لتخصيص جنود وأموال ومعدات على طول 460 كيلومتراً الى أمد غير محدّد.
لن تكون هناك منطقة آمنة إلا بكفالة أميركية – روسية لا تزال مجرد افتراض، كما يُلاحظ، بسبب غياب أي مؤشّرات الى تفاهم بين الدولتين، فهما تتراقبان وتبدوان كما لو أنهما تتقاذفان الأفكار عبر تركيا التي تريدها كلٌّ منهما شريكة لها، لكن بشروطها، ومن دون الأخرى. وكلّما اعتقدت أنقرة أن التوفيق بين شروط الدولتين الكبريين ممكنٌ كلّما لمست أنه قد يقنّن دورها وطموحاتها، وعلى رغم تأكيدها أن ليست لديها أجندة خفية في سورية فإن واشنطن وموسكو تأخذان في الاعتبار ارتياباً عربياً في دور تركيا، سواء لسعيها الى نفوذ دائم في سورية والمنطقة العربية أو لإمعانها المنهجي في «أسلمة» أو بالأحرى «أخونة» الفصائل السورية الموالية لها، كما هي الحال في منطقتي إدلب و«درع الفرات».
في أي حال لن تكون هناك مناطق آمنة ما لم يتم انجاز تسوية قائمة على انتقال سياسي. وقد تبيّن في عديد من المناطق أن إنهاء القتال ليس كافياً لأن ما يسود بعده استتباعٌ مذلٌّ للناس «تشييعٌ» وأسرٌ للسوريين في حاجاتهم البدائية و»شرعنة» لسرقة أملاكهم وتغييرٌ في طبيعة مدنهم وديموغرافيتها، وكلّ ذلك لا يصنع أمناً ولا أماناً. وكان مستهجناً أخيراً ذلك التفاعل الشعبي مع الضربات الجوية والصاروخية التي تنفّذها إسرائيل، ففي شريط صُوّر ليلاً لومضات القذائف من سطح أحد الأبنية كانت تعابير الترحيب الشماتة واضحة.
أدرك سكان الحي الدمشقي أن المواقع المستهدفة هي للإيرانيين والنظام، وإذ كان ردّ فعلهم مسموعاً فإنه لم يكن متخيّلاً في أي زمن أن يكون على هذا النحو، لكنه حصل. ربما لا يجوز تعميمه إلا أنه عيّنة من حزمة نقمات تتقاطع وتتضارب وتعمّ المجتمع السوري حالياً بكل تناقضاته، والأكيد أنها لا تعني تقبّلاً لإسرائيل بما هي عليه كدولة احتلال وإجرام بل رفضاً وكرهاً لمن أوصلوا سورية الى ما هي عليه.
لدى إسرائيل تغطية أميركية وتنسيق واسع مع روسيا. كانت ضرباتها بذريعة الحفاظ على أمنها ولم يعد خافياً أن مهمتها الراهنة تندرج ضمن الاستراتيجية الأميركية ضد ايران، بمعزل عن التوصيف الذي يُعطى لأهدافها، أهي إنهاء الوجود الايراني أو منع تموضعه أو تقليص نفوذه أو إبعاد عناصره (عن الجولان) أو مجرد إزعاجه والحدّ من توسّعاته. ومع أن المواقف الروسية الرسمية تنحصر في التزام «ضمان أمنٍ قوي لإسرائيل» (وهذا موضع توافق ثابت مع اميركا)، إلا أنها لم تشرْ يوماً الى ضمانٍ مساوٍ وموازٍ لأمن الإيرانيين وميليشياتهم على رغم اعتمادها عليهم في العمليات القتالية لـ «قوات النظام» لاستعادة المناطق التي كانت خارج سيطرته. غير أن وتيرة الضربات الإسرائيلية وطبيعتها أظهرتا أن لروسيا مصلحة فيها، أي تلتقي جزئياً مع استراتيجية تقليص النفوذ الإيراني لئلا يشكّل خطراً على جنودها وخبرائها المنتشرين في سورية. لكن تنبغي الإشارة الى أن إسرائيل ليست متبرّعة بمهمة لخدمة مصالح اميركا أو روسيا بل تنتظر أن تسفر الأزمة السورية عن اعتراف بـ «شرعية» احتلال للجولان.
قبل أيام أشار رئيس لجنة الأمن القومي في البرلمان الإيراني حشمت الله فلاحة بيشة الى عدم تفعيل منظومة صواريخ «اس 300» لصد الهجمات الأخيرة على دمشق ومحيطها، ليستخلص أن ثمة تواطؤاً روسياً – إسرائيلياً ضد ايران. وهو بذلك يؤكّد المؤكّد، فالطرفان يعلنان عن اجتماعات التنسيق بينهما، ولم يعد خافياً أن استهداف المواقع الإيرانية يدلّ الى حصول الإسرائيليين على معلومات وإحداثيات دقيقة لا يمكن أن تتوفّر إلا من مصادر خبيرة على الأرض إما من الروس أو من طرف في النظام بعلم قيادته.
شيئاً فشيئاً تفرض التطوّرات على الأرض تغييراً في صيغة العلاقة بين الايرانيين والروس، إذ يوضح نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف أن روسيا ليست متحالفة مع ايران بل «تعمل» معهم. وفي الشهور الأخيرة بدأ الروس يولون اهتماماً أكبر لتصحيح أوضاع قوات النظام، وزاد اعتمادهم على الفيلق الخامس بقيادة فعلية لضابط روسي وعلنية لرجلهم المفضّل سهيل الحسن الذي عمل معهم على معظم الجبهات وباتت قواته بديلاً من الإيرانيين في أي موقع يرفض الروس وجودهم فيه. وفي الوقت نفسه يعمل الروس على محاصرة بؤر النفوذ التي أنشأها الإيرانيون داخل جيش النظام وأجهزته، ما أدّى الى الاصطدام بالحال الشاذة التي تشكلها الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الاسد ومطالبة شقيقه رئيس النظام بحلّها. وفيما تزايدت أخيراً الاحتكاكات بين الفيلق والفرقة، كان لافتاً أن تفجير مفخخات في دمشق واللاذقية لم يُنسب الى «إرهابيين» بل الى أطراف تنتمي الى أحد أجنحة النظام.