Site icon IMLebanon

لا أبو مالك..ولا أبو هادي  

«المستجير بعمرو عند كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار»

في شهر كانون الثاني سنة ٢٠١٢ أعلنت «جبهة النصرة» عن نفسها في بيان دعت فيه السوريين للقتال والجهاد في مواجهة النظام. ومن بعدها أخذت هذه الجبهة الحيز الأكبر من الإهتمام بعد سلسلة من المواجهات الناجحة كسبت فيها مساحات واسعة من النفوذ، وأعلنت انتماءها إلى خط تنظيم القاعدة الأصولي التكفيري الذي يعتمد المفهوم السلفي في السياسة والإجتماع.

بعدها ببضعة أشهر، دُعيت لإلقاء محاضرة في تجمع شمالي للحديث عن الثورة في سوريا وآفاقها، أكدت فيه أن النظام في سوريا هو الذي دفع إلى عسكرة الثورة ليسوّغ العنف الذي يمارسه لردعها. وعندما سُئلت عن «جبهة النصرة»، وقد كان بين الحضور مجموعة من الشباب المتحمس لها، أجبت بأن ظهور هذه الجبهة أسوأ حدث أصاب الثورة في سوريا مفنداً ذلك على الشكل التالي:

أولاً: إن قوة الثورة في سوريا تستند على منطق سلميتها، كما أن دعوتها إلى التغيير في الحكم وإسقاط النظام الديكتاتوري تستند إلى شرعية إنسانية ودولية.

ثانياً: انشقاق الجيش الحر كان مقبولاً على أساس أنه لا يزال ضمن منظومة الأمن الشرعية التي رفضت استهداف المدنيين، وبالتالي فإن استعمال السلاح من قبلها ضد من يعتدي على المواطنين يبقى ضمن منطق الشرعية.

ثالثاً: النصرة مرجعيتها هي الفكر التكفيري، وبالتالي فإذا كان السوريون يسعون إلى الحرية من نظام لا ديني ولكن متسلط، فإن النصرة إن حكمت ستحرمهم حتى من حرياتهم الأساسية استناداً إلى وهم الإستناد إلى المقدس.

رابعاً: من حيث الشكل، فإن منظر الذقون الطويلة واللباس الأفغاني والشعارات الدينية العدائية ستذكر العالم بالتطرف الديني وبما فعله تنظيم القاعدة على مدى العقد الماضي، وبالتالي سيضع المجتمع الدولي أمام إلزامية المقارنة بين نظام متسلط يمكن المساومة معه، وبين مجموعات طابعها متزمت ومنهاجها إرهابي.

خامساً: إن سورية، ولمصلحة لبنان، تحتاج لنظام ينقلها إلى القرن الواحد والعشرين بشكل مقبول، حتى يتمكن بلدنا من التنفس بحرية، وبالتالي التكامل مع منظومة اجتماعية وسياسية قادرة على فهم الحداثة والنظر من منطق المصالح المشتركة بدل السعي إلى الهيمنة، وأنه بالتأكيد لا مصلحة للبنان بوجود منظومة تخلف ديني على حدوده لأنها ستتسرب إليه حتماً وتتسبب بكوارث كبرى.

هنا انبرى أحد المتحمسين صارخاً بوجهي بأنه على تيار «المستقبل» الذي لا يعرف سوى «حمل الأقلام» أن يتعلم الدروس من «النصرة»، أو أن يتعاون معها لتواجه الخطر الذي يمثله «حزب الله» على أساس أن «القوة الشيعية يجب أن تواجهها قوة سنية…»، فكان ردي أن التطرف يخدم التطرف حتى ولو تواجه معه، ونحن في مواجهتنا لـ «حزب الله» نسعى للحفاظ على حرية خياراتنا في السياسة ومنع سيطرة قوة فاشية من إدارة البلد وليس لأنه قوة مسلحة شيعية، فموقفنا سيكون أشد في السياسة في مواجهة تنظيمات مسلحة سنية.

فما كان من الشاب المتحمس إلا أن انسحب ومعه بضعة شبان آخرين، معلنين أنهم ضد التيارات العلمانية…

بالعودة إلى ثنائي التطرف الإسلامي المتصارع في عرسال الآن، بين «حزب الله» و«النصرة»، الغريب في مجريات تلك الحرب، وما سبقها من مواجهات شارك فيها الحزب، هو أنه لم تسجل له اية معارك مباشرة مع «داعش»! وحتى هذه اللحظة، وفي ظل التماس الحاد القائم في جرود عرسال، بقيت المواجهات محصورة في «جبهة فتح الشام». قد يكون ذلك جزءاً من العبقرية العسكرية، أو ربما لتفاهمات من عالم التقية، لكن بالنهاية، فإنه من حسن حظ «حزب الله» أن تطرف الطرف الآخر دفعه إلى الإعتداء على الجيش اللبناني وخطف عسكر وقتل بعضهم بشكل وحشي، ليسوغ لـ «حزب الله» رفع الشعارات الوطنية لما يقوم به.

لكننا في ظل فورة الحماسة الوطنية التي أخذت في طريقها عقول بعض السياديين، لا يمكننا أن نتناسى أن الخطر الذي يمثله «حزب الله» على لبنان لن يتغير بعد معارك جرود عرسال، وأن تبعية هذا الحزب في كل شيء لإيران، وما تمثله من تطرف مذهبي وأطماع، لن تتحول فجأة إلى خدمة للكيان اللبناني التعددي.

لا بل على العكس، فإن هذا الحزب سيحاول الإستفادة من ذر الرماد في العيون، ليوسع رقعة نهشه في الجسم اللبناني الهش أصلاً.

ففي البداية لم تأتِ «النصرة» إلى لبنان، ولم يأتِ اللاجئون إلا بسبب الحرب التي فرضها «حزب الله» لإطالة عمر نظام الأسد. ويكفي أن يتذكر أصحاب الذاكرة الإنتقائية بأن دخول «حزب الله» إلى سوريا كان قبل وجود أي تهديد تكفيري للبنان، بل على العكس فقد دخل لحماية منظومة الأسد الذي شكل تاريخاً وحاضراً الخطر الأكبر على لبنان. وتدرجت أحبولة المشاركة في سورية من حماية المواقع الدينية الشيعية، إلى حماية القرى التي يسكنها لبنانيون داخل الأراضي السورية، إلى حماية ظهر المقاومة بحماية بشار، إلى أن أتى فرج «داعش» لتتركز الأمور على مواجهة بعبع التكفير.

لذلك، وحتى لا تضيع البوصلة عند بعض السياديين الواقعين تحت الرهاب الذي نسجته بروبغندا «حزب الله»، فإن ما يحدث اليوم في جرود عرسال هو صدام بين تطرفين على أرض لبنانية، واحد يمثل تخلفاً سياسياً وإجتماعياً سنياً، وآخر يمثل مصالح إيران التي تحكمها أسطورة شيعية لا تقل تخلفاً عما تمثله «النصرة». بالمحصلة فلا فرق بين أبو مالك وأبو هادي.

(*) عضو المكتب السياسي في تيار «المستقبل»