لم تدُم كثيراً مرحلة عودة التواصل السعودي – الإيراني. غلبَت وجهة نظر المتشائمين وعادت الأمور بين الجبّارين الإقليميَّين إلى نقطة الصفر، لا بل إلى مربّع المواجهة القاسية.ليس كلّ جديد جميلاً
كثيرون واكبوا بدقّة إعادة فتح قنوات التحاور بين طهران والرياض، وإن كان ذلك يحصل ببطء شديد. ساهم مناخ الانفتاح الأميركي على إيران في تليين التصلّب السعودي، وجاءت وساطة سلطنة عُمان لتُسهّل المخارج. هذا المشوار الصعب والحوار الشائك تُوّج بلقاء مباشر بين وزيرَي خارجية البلدين على هامش أعمال الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك، وقد حصل ذلك ما بين «بركان» «داعش» في العراق وسوريا، و«زلزال» إمساك الحوثيين بالعاصمة اليمنية صنعاء.
وعلى رغم أنّ نجاح الحوثيين بالإمساك في القرار العسكري اليمني لم يلقَ اعتراضاً سعودياً علنياً، إلّا أنّ المشاورات السياسية التي تلت العملية العسكرية أظهرت صعوبة التوافق السياسي. وجاء موقف وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل في شأن «احتلال» إيران لسوريا والعراق، ليُظهر في وضوح عودة الجميع الى المتاريس.
راهن كثير من اللبنانيين على التواصل السعودي – الإيراني لإيجاد الحلول لملفّات لبنان العالقة، وفي طليعتها ملف رئاسة الجمهورية، وأزماته الخانقة، وأبرزُها على الإطلاق الاهتزاز الأمني الذي يهزّ ركائز البلد، لكنّ الرهان سقط فجأةً.
ساد كلام عن تفاهمٍ ما على العراق واليمن يليه لبنان، طالما إنّ الأزمة السورية شديدة التعقيد، فيما كان كلام حلفاء إيران أنّ الملف اللبناني يجب أن يأتي بعد الملف السوري. المهمّ أنّ الأمور دخلت فجأةً في انعطافة حادة وسط تطوّرات خطيرة تشعل المنطقة.
صحيح أنّ الإعلان عن حُكم الإعدام في حقّ رجل دين شيعي في السعودية يُعتبَر خطوة تصعيدية كبيرة، إلّا أنّ الأوضاع الميدانية التي آلت إليها المنطقة تُعتبر شديدة الخطورة وقابلة لأن تحكم مرحلة طويلة مقبلة.
ففي ظلّ عدم حصول تقدّم ملموس في الملف النووي الإيراني، اقتربَ تنظيم «داعش» من بغداد ويُلوّح باقتحامها. تكفي الإشارة إلى أنّ العاصمة العراقية تضمّ أحياءً كثيرة من أبناء الطائفة السُنّية الذين كانوا على مواجهة مستمرّة مع الشيعة.
عند الحدود السورية – التركية، تطوّرات هائلة تصيب الوجود الكردي وتُرخي بظلالها على الاوضاع داخل تركيا والاستقرار الأمني فيها، حيث يطمح الرئيس رجب طيّب اردوغان لدخول اللعبة الاقليمية الدامية من خلال منطقة عازلة، في مقابل تلويح إيران بحقّها في التدخّل المباشر في هذه الحال.
وعند الحدود السورية الجنوبية شريط على طول الجولان تُسيطر عليه «النصرة»، وسط تعاون بينها وبين إسرائيل. ويتردّد كلامٌ مفادُه أنّ «النصرة» تسعى إلى تسوية مع إسرائيل تقوم على أساس ضمان الحدود وإنجاز تعاون أمني، في مقابل مساعدة إسرائيلية لضرب النظام السوري والسيطرة على دمشق.
هذه الجبهات الثلاث، تؤشّر إلى مرحلة جديدة من النزاع المدمّر والكبير، الذي يحتاج إلى وقت طويل لتبيان نتائجه. وسط كلّ ذلك، لم تعُد هناك مساحة، ولو صغيرة، للتعويل عليها لإنجاز تفاهم، ولو جزئي ومُلحّ، حيال الأزمة الرئاسية في لبنان، بل إنّ التشاؤم يصل إلى مراحل متقدّمة، والمقصود به هنا الوضع الأمني.
منذ أيام، أُعلِن عن زيارة للأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله إلى البقاع حيث التقى كوادر الحزب ومسؤوليه الميدانيّين. الواضح أنّ هذه الزيارة هي لتفقّد جبهة يتركّز عليها الضغط لتصبح أكثر اشتعالاً، والهدف منها تدعيم الموقف وشدّ الأواصر قبل بدء المعركة الفعلية.
فالمتطرّفون يستعدّون لخَرق عسكريّ في عرسال وسط ما بدأ يتردّد عن خرق في البقاع الأوسط، وتحديداً في قوسايا. صحيح أنّ تلك المنطقة تضمّ منظمات فلسطينية موالية مثل «الجبهة الشعبية»، إلّا أنّ التجارب أثبَتت مراراً أنّه لا يمكن الركون للموقف الفلسطيني في أحوال مشابهة.
ففي المخيّمات الفلسطينية، ولا سيّما منها مخيّم عين الحلوة، سُجِّلت حركات مشبوهة، حيث اكتُشف مثلاً 250 كلغ من المتفجّرات مصدرها عين الحلوة كان العمل جارياً لنقلها إلى عرسال، ما دفعَ بالسلطات اللبنانية والفلسطينية إلى التفاهم على التعاون لضبط أوضاع المخيمات ومنع انتقال الفتنة إليها. ومنذ أيام، اغتيل مسؤولان في عين الحلوة من أتباع السلطة الفلسطينية.
في عرسال، يبقى الوضع دقيقاً وخطيراً، وبات هناك اقتناع بأنّه حتى لو نالت «داعش» و»النصرة» مطالبهما، فلن تُفرجا عن جميع العسكريين المخطوفين لديهما، لضمان تأمين خطوط إمداد لهما في الجرود، إضافةً إلى «استمتاعهما» بالإمساك بشرايين المواصلات اللبنانية من خلال الضغط على ذوي العسكريين.
الأسوأ، هو ما يخشاه البعض من أن يؤدّي التأزّم الإقليمي الحاصل إلى عودة مسلسل التفجيرات في الداخل اللبناني واستهداف الضاحية الجنوبية مجدّداً.
ماذا يعني كلّ ذلك؟
يعني أمراً واحداً، وهو أنّ هذا السياق الكبير لا ينتهي عادةً إلّا بولادة وجه جديد للبنان لا يمكن أحداً تحديد ملامحه منذ الآن، مع الإشارة إلى أنّه ليس بالضرورة أن يكون كلّ جديد جميلاً.