IMLebanon

ليس بالتخطيط المدني وحده يُواجَه النظام

بلغ الصخب الافتراضي ذروته في الأيام القليلة الماضية: بيروت وروح بيروت وبيوت بيروت وبيروت البيارتة وبيروت مدينتي وبيروت أمي وأهل بيروت ووسط بيروت وبحر بيروت ونفايات بيروت وتوت توت ع بيروت ومجارير بيروت ومساحات بيروت الخضراء…

يستيقظون على أغنية وينامون على أخرى، وبين الأغنية والأغنية أغنية أو مقتطفات من فيلم أو إعلان انتخابي يفيض شبقاً، أو إحدى العبارات الخالدة عن بيروت للرئيس الشهيد رفيق الحريري. أما البرامج الانتخابية فتحدّث بلا حرج عن المساحات الخضراء والتنظيم المدنيّ وتطوير نظام إضاءة المدينة وتنسيق الزهور على شرفات المنازل وتزويد الشقق السكنية بسخانات مياه تعمل على الطاقة الشمسية وتأمين «مرافق مجتمعية مشتركة»، تبين بعد البحث والتدقيق أنهم يقصدون بها الحدائق والمكتبات العامة، في وقت تعقد الندوات لشرح معنى «الحيّز العام» الذي تتعهد «بيروت مدينتي» في برنامجها الانتخابي بالحفاظ عليه. وخلاصة «الهرأة» الافتراضية تفيد بأن مجتمع المدينة المدنيّ، كما سياسيّوها، يعيشون في عالم آخر بعيد كل البعد عن بيروت. فمتابعة نشاط الماكينات الانتخابية يؤكد أن بيروت ـــ حتى بالنسبة إلى الوزير السابق شربل نحاس ـــ هي وسط بيروت وحرج بيروت وشاطئ بيروت ومواقف السيارات، فيما يمكن من يركن سيارته قرب وزارة الداخلية، حيث أودع ترشيحه، أن يتجول قليلاً ليكتشف أن هناك، بعيداً عن وسط المدينة وزيتونتها وحرجها المقفل ومصبّ مجاريرها، مدينة حقيقية. والناس في هذه المدينة، في برج أبي حيدر ورأس النبع وزقاق البلاط وعائشة بكار وكركول الدروز وتلة الخياط ومار الياس والصنائع والوتوات والظريف وسليم سلام، وطبعاً الخندق الغميق، لم يسمعوا بعد بحيّز «بيروت مدينتي» العام، ولا لفت نظرهم غرس مدير سوليدير للأشجار على جوانب طرقاتهم. يريد جمال عيتاني «الحفاظ على الأرصفة للمشاة» كأنه لا يعلم أنه ما من أرصفة خارج الحي الذي تحتله شركته. وينسخ من برنامج إحدى اللوائح الانتخابية في إحدى المدن الأوروبية عبارة عن تعهّد مجلسه البلدي بتشجيع استعمال الدراجات الهوائية وضمان سلامة تنقلها في المدينة. وهو بند أثّر من دون شك في مشاعر المناصرين لـ»بيروت مدينتي» وشعروا بأن عيتاني سجّل نقطة في مرماهم. فهم أيضاً يحبون الدراجات الهوائية وكانوا ينوون التعهد بضمان سلامة المتنقلين عليها. إلا أن أهل المدينة لم يقرأوا هذا كله؛ لا يبالون بهذا كله. وهم بطبيعة أحوالهم ليسوا ممن يتوجهون في نهاية كل أسبوع إلى «بيال» لاستئجار دراجة هوائية. «بيروت باي بايك» لا تعنيهم كثيراً، ونادراً ما يحتفلون بيوم الأرض. بيروت التي لم يذكرها أصحاب الياقات تعاني أزمة اقتصادية خانقة يتحمّل مسؤوليتها المجتمعون بكل وقاحة في لائحة واحدة، ويعاني أهلها من توترات مذهبية بلغت حدّ الاقتتال في بعض الأحياء، وتهجير الأسر من حي إلى آخر بفعل تحريض القوى السياسية وتعبئتهم المذهبية للبيارتة بعضهم ضد البعض الآخر. بيروت التي يريد عيتاني «تأمين خدمة طوارئ صحية لأهاليها على مدار الساعة» سُرق مستشفاها الحكوميّ في وضح النهار، وهو لا يزال رغم كل ما صرف عليه أقل من مستوصف، لأن شركاءه في إدارة البلدية يديرون مافيات استشفائية تستوجب كسر المستشفيات الحكومية، ومافيات تربوية تستوجب كسر المدارس والمعاهد الرسمية، ومافيات سياحية تستوجب إقفال الحرج وتحويل الشاطئ إلى مستنقع مجارير. يمر هؤلاء بشارع الحمرا فيظنون أنهم رأوا بيروت؛ لا يكبدون أنفسهم عناء الصعود أو النزول شارعاً أو شارعين لرؤية المتاجر الخاوية و»فنادق ـــ سجون» الاتجار بالبشر وتجمعات المدمنين. بيروت مدينتي تبعد عن الجميزة ومار مخايل والصيفي فيلادج بضعة شوارع، ولا أحد هناك يبالي بتهريج الفنانين وتنطّح المغنين والممثلين للعب أدوار سياسية بامتياز دون كلام سياسي. وقد بلغ المجتمع المدني في احتقاره للرأي العام حدّ الاعتقاد أن الناخب البيروتي يقترع على أساس الشكل لا المضمون. وقد نجحت بيروت مدينتي في تحويل الصراع من أزمة مفتوحة بين الرأي العام والمسؤولين عن الأزمة الاقتصادية والفساد المستشري وتحريض المواطنين بعضهم ضد بعض لتحقيق مآرب سياسية إلى مجرد سباق بين موظفي القوى السياسية ومجتمعها المدني. والمجتمع المدني كان ولا يزال منذ 14 آذار 2005 جزءاً من عدة الشغل الحريرية. والواضح في هذا السياق أن الأحزاب السياسية استشعرت حجم النقمة الشعبية عليها، فلملمت صفوفها في لائحة واحدة من جهة وأخرجت أرانب جديدة لجذب الناشطين والناقمين على السواء وشغلهم عن السياسة وإسقاط النظام وكشف فساد السلطة بالحدائق العامة وإنارة الطرقات وتنظيف الأرصفة في حال وجودها وتنظيم سير الدراجات الهوائية. ولا شكّ في أن أدوات المجتمع المدني اضطرت الوزير السابق شربل نحاس إلى الصعود في باص والتركيز أيضاً على بعض التفاصيل الصغيرة. إلا أن ذلك لم ولن يشغله عن الاستمرار وحده في التصويب على مكمن الخلل الذي يعاني منه كل اللبنانيين لا البيارتة فقط: فساد الطبقة السياسية وتوحّدها لحماية مصالحها وانشغالها بالصفقات والنهب عن تأمين احتياجات المواطنين، وكارثية بناء رفيق الحريري الاقتصادي. والناخب سواء في بيروت أو غيرها غير معنيّ ببرامج انتخابية ثبت أنه لا أحد يلتزم بها، وغير معني بكل المرشحين بعدما جرّب مصباح الأحدب وعمار الحوري وغيرهما من أصحاب الإطلالة البهية. ما يفترض أن يهم الناخب أولاً وأخيراً هو من يؤيد هذه السلطة ويجد في نظامها السياسيّ ما يستحق الحياة، ومن يعتبر ورقة الاقتراع فرصة للتعبير عن قرفه وتعبه واشمئزازه من النظام ومهرجيه، آخذاً في الاعتبار أن مثقفي النظام أخطر من سائر أدواته. فالأمر يوم الأحد ينبغي ألا يكون متعلقاً بزحمة السير ولا بإضاءة المدينة أو أرصفتها أو مكتباتها أو حدائقها أو حيّزها العام أو تنظيمها المدنيّ أو مواقف سياراتها وحسب. الأصل يكمن في مواجهة السلطة التي جمعها الهمّ الوجوديّ المشترك ـــ لا البرنامج الانمائي ـــ في لائحة واحدة. حين كانت سوليدير، تنطّح المجتمع المدنيّ لحرف الأنظار عن كل ما ارتكبته الشركة ـــ النظام بوسط العاصمة وأهله، باتجاه الآثار الرومانية. وعندما كان عقد سوكلين، تنطّح المجتمع المدني نفسه لحرف الأنظار عن الشركة ـــ النظام باتجاه موظّف يحمل لقب وزير البيئة. واليوم يحاول من يسمّون أنفسهم بالمجتمع المدني حرف الأنظار عن البرنامج السياسي للائحة النظام باتجاه تفاصيل إنمائية. يريد هذا «المجتمع» أن يقنعنا بأن المدن تُدار بالتنظيم المدني وحده، مجرّداً من السياسة، وبأن برنامجاً تنظيمياً عاماً يصلح لبيروت كما يصلح للإسكندرية واللاذقية وطرطوس وطرابلس الشام وسرت وبنغازي، في كل زمان، سينقذ سكان العاصمة من براثن نظام لا يرى فيهم إلا أهل سوق «أبو رخوصة»، ينبغي هدم منازلهم لبناء ناطحات سحاب فوق روح المدينة المسحوقة.

الخيار ليس محصوراً بين النظام ومجتمعه المدني. فمن سيقترعون الأحد للائحة نحاس ـــ أياً كان عددهم ـــ إنما يقترعون ضد هذا النظام، وهم الخميرة التي يعوّل عليها للمواجهات اللاحقة.