IMLebanon

لولا النكد السياسي

جميل أن تجتمع تحت سقف واحد، الهيئات الاقتصادية (الاثرياء) والاتحاد العمالي (الفقراء) وهيئات المجتمع المدني (النخب)، خشية جنوح البلد نحو الانتحار السياسي. لكنّ ما هو ليس بجميل أن ما من شيءعملي يجمع هذه الشرائح، إلا اذا افترضنا أن الهيكل عندما يسقط، فإنما يسقط على رؤوس الجميع، وهذا أمر يحتاج الى الكثير من التدقيق. فغالبا ما يسقط الهيكل على رؤوس الفقراء.

المشهد بالطبع فيه الكثير من السوريالية. الاثرياء يخشون أن تتضاءل ثرواتهم، فيما يخشى الفقراء ازدياد حاجتهم. يرفع الأوائل صراخهم حرصا على الترف، فيما الأواخر يصرخون من الجوع. الأوائل يعرفون مصالحهم جيدا، أما الأواخر فليس في ثقافتهم منظومة مصالح ولا من ينظّمون.

يعتقد البعض أن اجتماع «البيال» كان مفتعلا لأهداف سياسية. صحيح أن الأوضاع صعبة وغير طبيعية. مؤسساتنا الدستورية معطلة. اقتصادنا يتداعى. فرص العمل تكاد تنقرض، ونسبة البطالة في ارتفاع، وشبابنا يهاجر الى بلاد الدنيا الواسعة، وبتنا نربي أولادنا ونجهد لتعليمهم ثم «نشحنهم» الى أرض غير أرضنا وسماء غير سمائنا. ومع ذلك عندما ينظر اللبنانيون الى محيطهم ومنطقتهم، يُفترض بهم أن يحمدوا الله ويشكروه على أننا ما زلنا بخير. وهذا هو النموذج:

ـ سوريا خمس دول موزعة بين النظام و «داعش» و «النصرة» و «الجيش الحر» والأكراد. ثمة خمسة ملايين لاجئ سوري في الخارج ومثلهم في الداخل. مستقبل سوريا في علم الغيب، وقد لا يبقى في هذا البلد الجار حجر على حجر قبل أن تستقر الأمور.

ـ العراق تتناتشه ثلاث دول، بين السلطة و «الدولة الاسلامية» والأكراد. وأغلب الظن أنه لن يعود موحدا.

ـ اليمن في حرب ضروس منذ ثلاثة أشهر، وقد أعمل فيه القصف «الأخوي» قتلا ودمارا وتهديما، حتى ليخيل للبعض أنه لن تقوم له قائمة.

ـ مصر الثورة لم تخرج من أزمتها ولا هي قادرة على تحقيق أحلام ثوار الميدان، لأكثر من سبب جوهري، فضلا عن الارهاب الذي يقض مضجعها.

ـ ليبيا محكومة بحفنة من الجماعات المسلحة وهي عاجزة عن اختراع سلطة موحدة تدير البلد.

ـ حتى دول الخليج، كلها خائفة من المستقبل على الرغم من مظاهر السلطات القابضة على زمام الأمور.

ـ الفظائع على أشدها في سوريا والعراق، من عمليات بيع النساء والأطفال والأعضاء، والتفنن في عمليات القتل ذبحا وحرقا وإغراقا.

في المقابل، لا يزال لبنان حتى الآن دولة واحدة. هي دولة مريضة لكنها واحدة. مظاهر الدولة موجودة في كل مكان. ليس في رحابها ولا في خارجها لاجئ لبناني واحد. ليس في لبنان من ينام بلا عشاء. يستطيع أهله التجول بحرية كبيرة نسبيا في كامل أراضيه. لا تباع فيه امرأة في سوق النخاسة، ولا يذبح أو يحرق فيه أسير. من باب النكد السياسي ثمة من يزعم أن «داعش» و «حزب الله» وجهان لعملة واحدة، فيما الوقائع تؤكد أنهما عملتان مختلفتان تماما. ولولا هذا النكد السياسي لكنا بألف خير، قياسا الى هذا المشهد القاسي جدا من حولنا.

يريد أثرياء لبنان أن يقنعوا فقيره أن رغيفه ملك يمينهم. والحقيقة يعرفها الجميع، بأنه لولا تلك الدراهم التي يضخها المغتربون لأهلهم في الداخل، لانهار لبنان منذ زمن طويل. ونرجو ألا يُعتبر هذا الكلام حقدا طبقيا.

حتى الآن ما زلنا بخير، ولم نكن قبل الشغور الرئاسي بأفضل الأحوال كي نهول بالانتحار، إلا اذا كان ثمة من يريد إحراق البلد لإشعال سيجاره الكوبي. ونحن نجلّه عن ذلك.