نظام بشار الأسد دخل منذ أربع سنوات مرحلة احتضار دموي مزمن. لكنه لم يسقط بعد. وليس ثمة مؤشر يمكن الركون إليه لتوقّع «متى سقوطه»، وإن كان بإمكانه – على الدوام – أن يسقط في العاصمة دمشق في أية لحظة.
ليس النظام الأسدي، مع ذلك، حشرجة من الماضي. ليس مجرّد «شبح نظام» ينتظر الإماتة الديبلوماسية الرحيمة. ليست هناك من عملية سياسية بمستطاعها تفكيك ما بقي منه، أو ما استمرّ، إلا إذا كانت مواكبة لعملية عسكرية، أو أقله لعملية أمنية متقنة.
لا يميل أخصام النظام، في سوريا كما في لبنان، إلى الإقرار بحيثية «الاستمرار» هذه. بدلاً من أن يكون النظام مجرد نظام محتضر، فقد نجح في تحويل نفسه الى نظام احتضار دموي حيوي ومزمن. بدل أن تقوض الثورة الشعبية أركانه حدث التوازن الكارثي بين النظام والثورة في مجرى حرب أهلية لا يزال للنظام اليد الطولى في ادارة مجالات أساسية فيها.
هذا التوازن الكارثي ضاعف السمة الدموية المتأصلة في بنية النظام السوري، لكنه بدّل من سمة الثورة. لم تفلح في تطوير نفسها كثورة وطنية ديموقراطية، تطرح على نفسها مهمات استبدال نظام فئوي استبدادي بآخر دستوري تعددي يعيد تأهيل الجامعة الوطنية. ولم تفلح في تكريس نفسها كثورة وطنية إسلامية، تؤطر توحيدياً الأنسجة الأكثرية مذهبياً، والمحافظة دينياً في المجتمع السوري، إنما في نطاق إعادة انتاج الفكرة الوطنية السورية بشكل واقعي ومتين.
ليبرالية النخب، وجهادية الفصائل، والفجوة بينهما، والمكابرة على الفجوة بفجوة أوسع منها، كل هذا ضاعف المحنة. في الوقت نفسه، استمرت الثورة كثورة وجودية بامتياز، ثورة السوريين، ثورة تبقى الى حد كبير بلا اسم، وبلا وطن، ثورة مجتمع يتعرض لأبشع العمليات الدموية التنكيلية والترحيلية، لأكبر كارثة انسانية ممتدة في الزمان بعد نهاية الحرب الباردة.
النظام لم يسقط. هذا معطى يصعب على أخصام النظام إقراره بكل مندرجاته المباشرة. بالتوازي، النظام لن يقف مجدداً على قدميه، وليس ثمة امكانية لإعادة تطبيع شأنه في المحيط والعالم ولا إمكانية أيضاً لإعادة تمويه طابعه الفئوي الأقلوي. هذا ما لا يستطيع الممانعون تقبّله.
ما زال النظام مصدراً للشرّ. المصدر الأول له على صعيد الداخل السوري. ومصدر على جانب من الخطورة في البلدان المجاورة، لا سيما لبنان. المبالغة في القول إن التاريخ تجاوزه، والمبالغة في استسهال عملية إزالته، وفي استسهال عملية تخلي رعاته الموسكوبيين أو الإيرانيين عنه، والمبالغة في إلغاء دوره في الإبقاء على نفسه، لصالح تفسير بقائه بأخطاء الثوار، وبتدخل الحلفاء لنجدته ليس إلا، كل هذا من جملة ما لا يستقيم.
ما زال النظام الأسدي جزءاً قاتماً من حاضرنا وليس فقط ماضينا. في الوقت نفسه ما عاد لهذا النظام من وظيفة في مكافحة الإرهاب يمكنه أن يعتدّ بها أو يبتزّ على أساسها. تجارته السابقة في الاستثمار بالإرهاب كسدت. يريد النظام أن يوحي بأنه ما زال يمسك بمفاتيح لتقويض الارهاب، لكنه الى حد كبير يدّعي أمراً ما عاد بمستطاعه. الأمر نفسه حيال لبنان: قدرته على الإيذاء لم تضمحل بعد، لكن قدرته على التحريك السياسي تعادل الصفر.