n
لو أن لبنان التزم “إعلان بعبدا” لما كان القادة يدخلون كل مرة في جدل حول ما يجب أن يكون عليه موقفه في المحافل العربية والدولية من قضايا مطروحة عليها و مثيرة للخلاف والانقسام، ولا تكون هذه المواقف استنسابية وانتقائية ووفقاً لظروف يختلف القادة على تقديرها… ولو أن لبنان التزم حتى سياسة “النأي بالنفس” عما يجري حوله، لما كانت تعرضت حكومة الرئيس نجيب ميقاتي للاستقالة تحت ضغط تدخل “حزب الله” عسكرياً في الحرب السورية التي ينقسم اللبنانيون وقادتهم حولها انقساماً حاداً سياسياً ومذهبياً.
لذلك فإن اقتراح الوزير ميشال فرعون جعل سياسة “النأي بالنفس” موضوع بحث في جلسة هيئة الحوار المقبلة هو اقتراح في محله، اذ بات على لبنان أن يحسم سياسته الخارجية اما باعتماد الحياد واما باعتماد الانحياز لأن لا استقرار سياسياً وأمنياً واقتصادياً دائماً وثابتاً فيه ما لم تحسم هذه السياسة بموافقة كل القوى السياسية الأساسية في البلاد بحيث تكون سياسة كل رئيس للجمهورية وكل حكومة تحصيناً للجبهة الداخلية وترسيخاً للعيش المشترك والسلم الأهلي.
لقد دفع لبنان غالياً ومنذ العام 1943 ثمن انحيازه لهذا المحور أو ذاك وجعل أرضه مفتوحة لتحمّل عواقب صراع المحاور سياسياً وأمنياً واقتصادياً. فمن صراع بين فرنسا وبريطانيا على أرضه الى صراع بين بريطانيا وأميركا وصراع بين “حلف بغداد” و”التيار الناصري” فكانت أحداث 58، الى خلاف حول السلاح الفلسطيني الذي لم ينفع لضبطه حتى “اتفاق القاهرة” وإخلاله بالسيادة الوطنية، ولا منع حصول حرب لبنانية – فلسطينية تحوّلت حرباً لبنانية– لبنانية واستمرت 15 سنة لأنها أصبحت حرب الآخرين على أرضه، ولم تتوقف تلك الحرب الطويلة إلا بعد التوصل الى اتفاق عرف بـ”اتفاق الطائف” الذي أخضع لبنان لوصاية سورية دامت 30 عاماً خلافاً حتى لمضمون هذا الاتفاق. ولأن في لبنان قادة مرتبطين بخارج لا بل مرتهنين له يواجه عند كل استحقاق رئاسي أزمة كان أشدها تلك التي يشهدها اليوم. فلم تحل أزمة الانتخابات الرئاسية في الماضي إلا بعد التوصل الى اتفاق في الدوحة، ولم تحل أزمة الانتخابات الرئاسية الى اليوم حتى بعد مرور 19 شهراً، ولا أحد يعرف أي اتفاق سيتم التوصل اليه في الداخل أو في الخارج بحيث بات على القادة في لبنان واجب الاتفاق على أي سياسة يريدون في علاقاتهم مع الدول العربية والإقليمية والأجنبية كي يستطيع أي حكم يقوم فيه التزام هذه السياسة، ولا يظل الخلاف عليها يثير الانقسامات الداخلية السياسية والمذهبية المهددة للوحدة الوطنية والعيش المشترك. والحاجة الى بلوغ هذا الاتفاق هي اليوم أكثر من أي وقت مضى في اجتماع أقطاب الحوار وبت هذا الموضوع والتعهد بالتزامه فلا يتكرر ما حصل بعد “إعلان بعبدا” من خرق له وما حصل لسياسة “النأي بالنفس” من خرق لها أيضاً.
لقد كفى لبنان أن يظل ساحة مفتوحة لصراعات الآخرين على أرضه، حتى إذا حصل انقسام داخل أي دولة عربية أو حصل صراع بين دولة ودولة كانت هذه الساحة متنفساً لهذه النزاعات، وآن للبنان ان يبتعد عن صراعات المحاور على اختلاف هوياتها وأهدافها اذ لا شأن له بها مثل الاعدامات في السعودية وانقسام اللبنانيين حولها سياسياً ومذهبياً. وما شأن لبنان بما يفعله الحكم داخل مصر والعراق وتونس والجزائر وموريتانيا كي ينحاز لفريق من دون آخر؟
إن سياسة ربط المحاور وسياسة الحدود المفتوحة لا تصلح للبنان نظراً الى تركيبته الدقيقة والسريعة العطب، إنما سياسة “لا شرق ولا غرب” التي دعا اليها “الميثاق الوطني” لأنها السياسة المناسبة لاستقراره العام، وهي السياسة التي لم تطبق لأن انضمام لبنان الى جامعة الدول العربية جعله طرفاً في أي خلاف عربي عند التصويت. وهو ما واجهه في الخلاف السعودي – الإيراني وفي أي خلاف عربي محتمل، وهو ما يؤكد ان سياسة تحييد لبنان هي السياسة الحكيمة والصائبة التي تلائم تركيبته الدقيقة والحساسة.
الى ذلك، فإن عدم توصل القادة في لبنان الى اتفاق على أي سياسة خارجية يريدون قد يجعل عهد كل رئيس للجمهورية وكل حكومة عرضة للاهتزازات السياسية والأمنية والاقتصادية. فعلى اللبنانيين، ولا سيما منهم الموارنة، أن يتفقوا على هذه السياسة لأن اتفاقهم على انتخاب رئيس للجمهورية وعلى تشكيل حكومة وعلى قانون للانتخاب لا يكفي لحماية لبنان وتحصينه. ما لم يتم التوصل الى اتفاق على تحييد لبنان كي لا يظل يدفع ثمن انحيازه غالياً. فكفى لبنان أن يظل ساحة لصراعات المحاور ومكباً لمشكلات المنطقة.