IMLebanon

ليس باقياً إلى الأبد!

 

قبل أن ينهي الرئيس بشار الأسد خطابه في «قصر الشعب» يوم الأحد الماضي، سقطت فجأة على رأسه في قصر المهاجرين قذيفة سياسية ثقيلة، أطلقها علي خامنئي مباشرة، وفي هذا الوقت حين كانت مجموعة من التعليقات على خطابه تُجمع على ملاحظتين: أولاً أن الأسد يستعجل الإيحاء بأنه انتصر، ويستعمل لغته السابقة في تقريع دول الغرب وازدراء القومية العربية، وثانياً، صحيح أن «القصر» موجود؛ لكن «الشعب» السوري غير موجود، فهو في اللجوء والتيه.

في الوقت عينه بدا قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، تقريباً، وكأنه يتعمّد إلقاء السخرية أو المياه الباردة على المواقف النارية التي أطلقها الأسد في خطابه، عندما نقل عن علي خامنئي قوله، إن إيران تنظر إلى سوريا من باب المصلحة، بغض النظر عن اعتبار بعض المسؤولين الإيرانيين بشار الأسد ديكتاتوراً.

قال سليماني الذي يقود التدخلات الخارجية في سوريا والعراق، إن بعض الأصدقاء الذين من أصحاب المناصب الكبيرة في داخل إيران وخارجها، كانوا ينصحون بعدم التدخل في سوريا والعراق، ويطالبون بالدفاع عن الثورة باحترام، وذات يوم قال أحدهم: «هل نذهب إلى الخارج لندافع عن الديكتاتوريين؟» لكن المرشد أجابه: «وهل ننظر لأي حاكم للدول التي نقيم معها علاقات هل هو ديكتاتور أم لا… نحن نرعى مصالحنا»!

لكن هذه المصالح تحديداً لن تتسع أو تقبل ضمناً بالتأكيد، تلك اللغة المستأسدة التي اعتمدها رئيس النظام السوري في خطابه، الذي أراد الإيحاء من خلاله أنه يعد لثورة داخلية، أو لنقل «حركة تصحيحية» جديدة لتعويم نظامه، الذي فقد كل سيطرته تقريباً، وأصبح ضاحية سياسية إيرانية وملحقية روسية في أحسن الأحوال.

ويعرف الإيرانيون جيداً أن الغزل الذي خصّهم به مع الروس و«حزب الله»، هو في حساباته مجرد تسديد كلامي لحسابات ثقيلة، سيحاول حتماً التحلل منها تدريجياً، والخروج عليها نسبياً، على الأقل لإعطاء كلامه عن الانتصار شيئاً من المعنى.

على خطٍ موازٍ ومنسّق طبعاً مع النظام، كانت «منصة موسكو» التي تمثل الأسد، تتعمّد تخريب اجتماع الرياض الذي دعا إليه ستيفان دي ميستورا، بهدف توحيد المعارضات السورية في وفد واحد، يقابل وفد النظام في جنيف، وتتصلب في رفض اقتراحات «الهيئة العليا للمعارضة» إدراج نصٍ يشير إلى مطالب الشعب السوري برحيل الأسد، وألا يكون له دور في السلطة الانتقالية، وكذلك في معارضة اقتراح وضع إعلان دستوري مؤقت، ينظم العمل خلال المرحلة الانتقالية، إلى أن تنطلق العملية السياسية ويتفق السوريون على دستور جديد!

على خلفية كل هذا، كان من الواضح أن خطاب الأسد من جهة، وموقف «منصة موسكو» من جهة ثانية، مجرّد محاولة مكشوفة من النظام لوضع فرضية «الانتصار الناجز»، واستعادة السيطرة على كل شبر من أراضي سوريا، كحتمية نهائية تستبق العملية الجارية على الأرض بتفاهم روسي أميركي، تم التوصل إليه في هامبورغ، حول مناطق «خفض التوتر» الأربع، التي يفترض أن تشكل معبراً إلى حل سياسي، عبر الاتفاق على صيغة دستور جديد، يقود في النهاية إلى عملية الانتقال السياسي التي سيقررها السوريون، عبر انتخابات تجري في الداخل والخارج، بإشراف الأمم المتحدة.

وفي حين ينخرط الروس والأميركيون في قتال «داعش» و«النصرة»، وتدعو الأمم المتحدة «الهيئة العليا للمفاوضات» ومنصتي موسكو والقاهرة إلى تشكيل وفد موحّد، يذهب إلى جنيف لمفاوضة النظام على حل، يبقى من الواضح لدى واشنطن كما لدى موسكو، أنه من غير الممكن الحديث عن أي حلٍ معقول ومقبول، ما لم يتضمّن خروجاً من الديكتاتورية التي أشار إليها خامنئي شخصياً. فما معنى أن يقف الأسد في «قصر الشعب» ليلقي «خطاب النصر»، كما وصفه البعض، وكأن ستة أعوام من الدم والدمار يمكن أن تنتهي بالقول: «إن الثوار حثالة من الناحية الإنسانية والأخلاقية والوطنية… وإنهم بلا وزن وإلى سلة المهملات»؟

فعلاً، ما معنى هذا الكلام بعد كل الجهود التي بذلتها موسكو دائماً مع واشنطن، لفرز المعارضين والثوار الحقيقيين عن الإرهابيين، إذا كان جميع هؤلاء «أدوات طبية ملوثة لا يمكن إعادة تدويرها» كما يقول الأسد، الذي لا يرى في كل سوريا معارضاً واحداً، رغم أننا نتذكر هنا جيداً أنه حتى السيد حسن نصر الله قبل دخول «حزب الله» المعارك في سوريا، كان قد أشار صراحة إلى مطالب شعبية محقة عند السوريين يجب استجابتها، فهل أصحاب هذه المطالب حثالة وليسوا من الثوار؟ وهل كل الذين عارضوا النظام هم إرهابيون قتلة من «داعش» و«النصرة»؟

في منتصف مارس (آذار) من عام 2016، عندما أعلن الأسد أنه مصمم على تحرير كل شبر من الأراضي السورية، وصله إنذار فوري غير مباشر من بوتين شخصياً، تمثّل بالإعلان عن الرغبة في الانسحاب من سوريا، ولهذا مغزى عميق يتلاقى مع وصف خامنئي للأسد بأنه ديكتاتور، فليس خافياً أن بوتين أعلن صراحة ومباشرة بعد تدخله في سوريا نهاية سبتمبر (أيلول) عام 2015، ما كرره مراراً، من أن موسكو لا تتدخل لدعم شخص الأسد؛ بل لمنع انهيار الدولة السورية.

كما ينظر خامنئي إلى سوريا من باب المصلحة، كذلك ينظر بوتين إليها من باب المصلحة أيضاً، وهل الأميركيون الذين يقاتلون اليوم في الرقة للقضاء على «داعش» ليسوا أصحاب مصالح عميقة، تمتد من سوريا إلى العراق والمنطقة كلها؟

والسؤال الأهم: هل تدخل الروس والأميركيون والإيرانيون والأتراك في سوريا، التي دُمرت كلياً وتشرّد عشرة ملايين من أبنائها في خارجها وفي داخلها، لكي ينتهي كل هذا بوقوف الأسد ليحمل على الغرب «الأفعى المتلونة» وعلى معظم الدول العربية، وليسخر من الحديث عن الحكم الفيدرالي الذي اقترحه بوتين، قافزاً فوق خطط مناطق «خفض التوتر»، التي من الواضح أنها تشكّل أساساً واضحاً للفيدرالية التي ستضمن نسبياً مصالح جميع الذين دخلوا هذا الميدان الدموي؟

مع هزيمة الإرهابيين، تُستحق على النظام السوري فواتير كثيرة، عليه أن يسددها لزمن طويل، فواتير للروس وللإيرانيين وحلفائهم، ولهذا «الثورة الداخلية» أو «الحركة التصحيحية» التي أشار إليها في خطابه ستخضع كلياً في الواقع لهذه الفواتير، وقياساً بكلام خامنئي عن الديكتاتورية وانكباب بوتين على وضع قواعد الفيدرالية بالتعاون مع ترمب، يعرف الأسد ضمناً أن «خطاب النصر» لا يعني إطلاقاً أنه باقٍ «رئيسنا إلى الأبد».