Site icon IMLebanon

لا الماضي أزحناه ولا المستقبل نبنيه

لم تأخذ سنة 2014 ملفاتها السوداء معها، بل هي وضعتها في خانة الديون، حتى تلك الدول التي يغطي النفط معظم احتياجاتها بعد أن قررت إدخاله في المنازلة السياسية الكبرى. «الإسلام والنفط»، كما يقول أهل الجزيرة العربية، هما «الهبة التي يمتلكونها» تَحَوَّلا إلى العبء الأكبر اليوم.

كلاهما، الإسلام والنفط، صارا من عناصر هذه الفوضى العربية الاستثنائية في تدميرها لمنجزات العرب، والمنجز البشري قبل الحضارة المادية. أما دعاة «الرسالة الخالدة» فهم شركاء في حفلة التدمير الذاتي حيث سقطت الرسالة واحتفظوا بالسلطة دون سواها من عناصر قوتهم.

أشرف الحريق العربي على ولوج عتبة سنته الخامسة ولا أحد يستطيع الادعاء أنه يحاصر هذا الحريق. المشكلات هي نفسها والفاعلون هم أنفسهم في الداخل والخارج. تبقى بلاد الرافدين والشام تكرر أخبارها اليومية في القتل والتدمير.

بارقة الأمل التي حاولت إطلاقَها «الأفكارُ الروسية» لما يُسمى «الحل السياسي» في سوريا دونها الكثير من العقبات وفي المقدمة القوى المعنية بوقف العنف. أما الهَبَّةُ المفترضة في وجه الإرهاب و «داعش» بشكل خاص فلا أثر لها بعد في الميدان لا من حيث الهجوم المعاكس ولا من حيث «المؤتمرات» الفكرية التي يجب أن تحسم في ما هو الإسلام السياسي الذي يريده أصحابه جوابًا على هذا العصر. «داعش» هذا جزء من بنية فكرية للعديد من الأنظمة وليس خارج السياق التاريخي لترسانة النفط والإسلام.

على أي حال ظاهرة «داعش» لا تختصر المشهد العربي لا من حيث زمان صعودها ولا من حيث آثارها ونتائجها، فهي اليوم تبدو مركز استقطاب وهي كانت وستبقى لأمد طويل تحت عنوان الإرهاب. كنا ولا زلنا لا نسمي الأشياء بأسمائها بل نسعى إلى تحويرها. مشكلات العالم العربي هي في الارتجاج العنيف الذي أحدثته صدمتا الحداثة و «اللبرلة» الاقتصادية في دوائر ضيقة من مجتمع تتسع فيه قاعدة الفقر والبطالة والتهميش والأمية وتوأمها التعليم غير المنتج والشرائح غير العادية من متخرجي المدارس والمعاهد وجامعات الشريعة والوظائف المتنامية لهذه «القوى الثقافية الجديدة».

لا نجد الآن، في العالم العربي كله، جبهة مفتوحة بين ما تمثله حركات الإسلام السياسي بمنوعاتها وبين القوى التي تسعى إلى مدنية الدولة وعلمنة السياسة. بل نكاد نجد أن الأعلى صوتًا في وجه «داعش» كظاهرة ينطلقون من مواقع تنتمي لثقافة إسلام سياسي مغاير أو مختلف أو لمواقع طائفية.

ورغم انكماش وضمور «المسيحانية» السياسية في العالم العربي ولبنان وشعورها المعبّر عنه بشكوى الاستهداف الوجودي نجدها أيضاً وقد انضمت إلى موقع الاستثمار السياسي واستدرار العطف لا إلى مشروع مقاومة مدنية لها في الكثير من المواقع تأثيرها. انحطاط السياسة هذا هو الأصل الذي تنبت عليه كل الظواهر السلبية إسلامية كانت أو غير إسلامية. أولوية الاقتصاد، ولا شك أنه أولوية، باتت تفسر كنقيض لـ «الاقتصاد السياسي».

يكفي في هذا التفكير أن نتبع الليبرالية الجديدة ونراكم رأس المال وندخل بلا شروط في دورة استهلاك السلع وفي المشاريع الريعية وحركة الأموال الافتراضية من بورصة وأسهم حتى نحقق التقدم ونفتح فرص الشغل والإنتاج. لقد صارت «اللبرلة» نظرية مقدسة لدول لا تملك بنيات اقتصادية قوية ولم تحقق التراكم الضروري للانطلاق من الرأسمالية الوطنية إلى الرأسمالية المعولمة.

هجرنا نظرية «رأسمالية الدولة الوطنية» لنحول وظيفة الدولة، وهنا بمعنى السلطة، إلى مصدر أساسي لبناء الثروة ولا نقول رأس المال. الثروة هي هنا المال المحقق من المضاربات ومن الامتيازات السلطوية لا من الإنتاج.

الوطن يوازي الحقيبة السوداء المحمولة والمنقولة لا المصنع والمشروع الزراعي والموسم المنتظر أن يولد من عام إلى عام آخر.

ما نحن فيه الآن ليس موجة عابرة مادية أو معنوية عسكرية أو ثقافية. نحن أمام حقبة زمنية تطول أو تقصر ليس فقط بإرادة الدول الكبرى، على أهمية ذلك في الميدان العسكري، بل بما نستطيع أن نعيد بلورة المشروع العربي، مشروع ما تحتاجه الشعوب لتتجاوز الماضي الثقيل الذي أدى إلى انفجار غضبها، بل كذلك لمعالجة الفجوة الجديدة الناتجة من الحرب نفسها.