“يا حرقة قلبي على شبابك يا جبران تويني!”، قالت السيدة الجالسة قربي في الطائرة عندما عرفت أني أعمل في جريدة “النهار”. “يا ضيعانك! ولشو؟ كلّو ع الفاضي!”.
ليست هذه المرة الأولى أسمع هذه الجملة، ولا الأخيرة. أصلاً، عبارة “ع الفاضي” تقضّ مضاجعي منذ مقتله، ومقتل سمير قصير. أسمعها تتردد في رأسي ووجداني فأشعر بغصة مضاعفة: غصة أننا خسرناهما، وغصة أن خسارتهما تبدو لمعظمنا، حتى هذه اللحظة، هباء. هو نوع من الكفر ومن جلد الذات أن نفكر على هذا النحو، لكنه، أيضاً وخصوصاً، شكل من أشكال النظر في عين الوحش حتى يخفض نظره.
أيّ افتتاحيات كان ليكتب جبران وسمير في هذه الأيام السوداء؟ ماذا كانا ليقولا عن الفراغ الرئاسي، أو عن “داعش”، أو عن حرب النظام الاستبدادي في سوريا، أو عن الجنود المخطوفين، أو عن الأكل المسموم، أو عن لبنان المسموم عن بكرة أبيه؟ في الأمس حاول صديق تعزيتي قائلاً: “منيح يلّي راحوا وما شافوا هالشوفات”. أيّ عزاء مضحكٍ مُبكٍ هو هذا؟ ماذا تنفع هذه الجملة ابنتيه نايلة وميشيل اللتين خسرتا سهره عليهما؟ ماذا تنفع صغيرتيه غابريال وناديا، اللتين رأيتهما مصادفة خلال عرض للسحر في البيال الشهر الفائت، فتمنيت لو يسحب الساحر والدهما من قبعته ويضعه على صدريهما؟ ماذا تنفع أفراد عائلته وأصدقاءه وزملاءه ومحبّيه؟ ماذا تنفع جريدته؟ ماذا تنفع حفيديه جبران وشريف؟
لكلٍّ منا غصته على جبران تويني، لكلٍّ منا صورة عنه تتفوق على الصور الأخرى في الذاكرة. شخصياً، أتذكره إنساناً قبل كل شيء. قبل رئيس التحرير وقبل النائب وقبل الصحافي. يصعب عليَّ أن أسمع أغنية لماجدة الرومي من دون أن أستعيد ابتسامته الطيبة. يصعب عليَّ أن أقرأ استشهاداً لتشي غيفارا من دون أن أسمع نبرته الواثقة. يصعب عليَّ أن أمرّ من أمام المفرق اللعين حيث لفظ أنفاسه الأخيرة، أو أن أزور الطابق السادس في مبنى جريدة “النهار”، من دون أن أشعر بشكة في قلبي. اليوم ذكرى اغتياله التاسعة، ولم يتغيّر شيء. بلى، تغيّرت أشياء وأشياء، ولكن نحو الأسوأ.
“ع الفاضي” يا جبران؟ لا. هذه خيانة، وأنت تستحق عكسها. ينبغي لنا، من أجلك ومن أجلنا، أن نصدق أن موتك وموت سواك في لائحة مغدورينا الطويلة لم يكن هباء، وأن هذه الغصة التي تخنقني، وتخنق كثيرين اليوم، سوف تتحول قريباً شوكة في زلعوم قاتليكم، وقضيباً من قضبان السجن الذي سيتعفنون فيه.
قريباً. أجل. بقوة الحقيقة والأمل والحرية. قولوا معي.