بلبلة في تسعيرة المعاملات تُربك المواطنين
هم في منطقة وسطى بين القطاعين العام والخاص، يستوفون رسوماً قانونية لصالح الدولة لا يحق لهم أن يحيدوا عنها قيد أنملة، وهم في الوقت نفسه أرباب عمل لهم موظفوهم ومكاتبهم الخاصة يتكبدون مصاريفها كاملة على حسابهم الخاص. هذا واقع الكتاب العدل في لبنان. رفعوا بدلات أتعابهم كسائر القطاعات في لبنان فأحدثوا بلبلة كبرى وارتباكاً في الأسعار… اتهموا بالغش فيما هم من القلائل المؤتمنين على ما تبقّى من عدل، فُرض عليهم واقع مالي جديد كما كل اللبنانيين، فهل بالغوا في استغلاله؟
دخلت مكتبها لتوقيع تعهد أتكفل من خلاله بمصاريف ابنتي أثناء إقامتها في فرنسا من أجل الفيزا. كلفة التعهد مليون ليرة، ليس بالمبلغ الكبير ولا يتخطى عشرة دولارات لكنه فاجأني كما باتت كلفة كل معاملة عند الكاتب العدل تفاجئ أصحابها. وأثناء تواجدي هناك سمعت صرخة السكرتيرة تستنكر سعر مياه الشرب الذي بلغ 2،5 دولار لكل غالون.
“كيف نستمر ونحن ندفع كل تكاليفنا بالدولار كما رأيت وسمعت، هل يمكن أن أبقي راتب مساعدتي مليونين ونصف مليون ليرة كما كان سابقاً؟ رفعت راتبها الى عشرة ملايين ليرة بالكاد تكفيها لكنها تشكل علي عبئاً كبيراً. كل ما أشتريه من أوراق وحبر ومعدات مكتبية أدفعه بالدولار إضافة الى كل الزيادات على فواتير الكهرباء والمولد والماء وغيرها ويتساءلون بعد لماذا رفعنا بدل أتعابنا ويتهموننا بالفساد والغش؟”. الصرخة ذاتها تتكرر عند أكثر من كاتب عدل لا سيما بعد تسريب جدول مجهول المصدر عن الرسوم الجديدة وبدلات الأتعاب. الأزمة أرخت بظلالها على كتاب العدل ورفعت كلفة تشغيل مكاتبهم بشكل كبير ومع توقف الدوائر العقارية ومصلحة تسجيل السيارات وتراجع النشاط التجاري والمصرفي تدنّى عدد المعاملات التي كانوا يجرونها بشكل يومي وتراجعت مداخيلهم. لكن المواطنين قلما يهتمون بالتفاصيل فما يرونه هو ارتفاع كلفة كل المعاملات التي يجرونها عند الكاتب العدل ومعظمهم غير مقتنعين بهذه الزيادات التي طرأت.
يقول احدهم وهو يملك محلاً لبيع الطوابع وتصوير المستندات “لا تخافي عليهم، في بداية الأزمة سددوا كل ما عليهم للدولة عن طريق شيكات مصرفية، هربوا أموالهم من المصارف واحتفظوا بالكاش. وهم اليوم من القلائل في البلد الذين لا تزال أعمالهم مستمرة، “ركلجوا” أرباحهم ويستوفون جزءاً منها بالدولار…” كلام نتحفظ عليه ولا نعرف ما يحمل من حقيقة. لذا توجهنا الى رئيس مجلس الكتاب العدل الشيخ ناجي الخازن لنطّلع منه على أوضاعهم وحقيقة ما يحكى عن رفع الرسوم وبدلات الأتعاب.
تدابير استثنائية فرضتها الأزمة
“نحن كتاب العدل نستوفي رسوماً لصالح الدولة ورسم الطابع المالي لصقاً أو نقداً وهو 41000 ليرة على المبالغ المذكورة بالعقود كما نستوفي أتعابنا من المعاملة لأن عملنا ذو طبيعة مزدوجة فنحن مكلفون بخدمة عامة وفي الوقت نفسه لا نتقاضى من الدولة راتباَ ولا تعويضات بل نحن أرباب عمل مسؤولون عن مكاتبنا وموظفينا. أرباحنا تأتي من مصدرين: الأول هو بدل الأتعاب الذي نستوفيه مباشرة من الزبائن عن كل معاملة، والثاني هو حقنا بالحصول على نسبة تحددها الدولة من قيمة كل عقد نصدق عليه. وبموجب قانون تنظيم مهنة كتابة العدل الصادر سنة 1994 يحق لنا استيفاء نسبة 11000 ليرة من قيمة العقد سواء كان بالليرة او بالدولار ولا نفرض تسديدها بالعملة الخضراء إلا إذا رغب صاحب العلاقة بذلك. وقد بات معظم الناس اليوم يتفادون توقيع عقود بالدولار إلا عند الحاجة. في العام 2017 ضاعفت الدولة الرسوم لكن حتى في موازنة 2021 كانت كل الرسوم لا تزال تستوفى على دولار 1500، موازنة العام 2023 أقرت سلة تعديلات ومنها رسم الطابع المالي الذي اصبح احتسابه يتم على منصة صيرفة إذا كان العقد بالدولار ومن هنا ارتفعت الأسعار. بالنسبة لنا ككتاب عدل ليست لدينا أية صلاحية لتعديل الرسوم، والسلطة المخولة بالتعديل هي وزارة العدل بالتنسيق مع وزارة المالية”.
يؤكد كل الكتاب العدل الذين تحدثنا إليهم أن العقود اليوم باتت كلفتها أقل بكثير من السابق فعقد العمل للخدم مثلاً كانت كلفته 200000 ليرة اي ما يعادل 130دولاراً، أما اليوم وقد صار 1600000 فهو لم يعد يساوي أكثر من 12 دولاراً. كثيرة هي العقود التي كادت تغيب عن مكاتب الكتاب العدل ومعها الرسوم التي تستوفيها الدولة وبدلات الأتعاب التي ينالها هؤلاء.
توقف بنك الإسكان أدى الى توقف القروض والعقود التي تتطلبها، وتوقف معظم القروض المصرفية سواء مقابل رهن أو تأمينات أو القروض الشخصية انعكس على عمليات بيع وشراء العقارات والسيارت. تراجع العمالة المنزلية جعل عقود العمل تتراجع بشكل كبير، وانكماش الحركة التجارية أدى الى انكماش ما يستتبعها من عقود وتعهدات. حتى تأسيس الشركات الجديدة تراجع بشكل كبير ويقول احد الكتاب العدل بعد أن كنا نوقع على تأسيس اربع أو خمس شركات جديدة اسبوعياً بتنا اليوم لا نؤسس أكثر من ثلاث الى أربع شهرياً. اما توقف الدوائر الرسمية وابرزها العقارية وتسجيل السيارات فكان له انعكاس كارثي على العقود وبالتالي على الكتاب العدل.
الضمانة القانونية
“عمل الكتاب العدل مهم جداً يؤكد الشيخ ناجي الخازن فهم الضمانة القانونية لأمور الناس ولتفادي النزاعات. وفي حين أقفلت معظم الإدارات العامة بقي الكتاب العدل مستمرين في تأمين السند الرسمي الذي يكفل حقوق الناس ويضمن استقرار الوضع القانوني العام. الارتفاع في كلفة المعاملة فرض علينا قسراً وليس اختياراً وبقي ضمن الحد الأدنى الضروري لاستمرار تأمين مستلزمات العمل والمعيشة في ظل الوضع الاقتصادي والمالي المتدهور باستمرار. الأزمة فرضت على مختلف القطاعات اتخاذ تدابير استثنائية واساس المشكلة هو الدولرة التي يشهدها الاقتصاد على كل الصعد”.
ولكن السند الرسمي الذي اعتاده المواطنون موحداً وبكلفة واضحة ومتشابهة عند الجميع لماذا بات اليوم يشهد اختلافاً مربكاً بين كاتب عدل وآخر؟ يجيب رئيس مجلس الكتاب العدل ناجي الخازن “مبدئياً يجب ألا يكون السند الرسمي بأسعار مختلفة لكن في الواقع هناك صعوبة في توحيد الأسعار وذلك لأن كلفة تشغيل المكتب تختلف بين كاتب عدل وآخر وفقاً لاعتبارات عديدة. نحن نخضع لمراقبة صارمة من قبل وزارتي العدل والمالية ولا يمكننا التلاعب بالأسعار أو الكلفة. لدينا هامش محصور لبدل الأتعاب ونحاول التأقلم مع الوضع الحالي وارتفاع سعر صرف الدولار من دون إرهاق المواطنين في انتظار إعادة نظر شاملة بالرسوم وبدلات الأتعاب. اليوم نحن نستوفي بدل الأتعاب بالليرة اللبنانية كوننا مرجعاً رسمياً تابعاً لوزارة العدل إلا إذا شاء الزبون شخصياً دفع البدل بما يوازيه بالدولار”.
تراجع كبير كمّاً ومردوداً
الكتاب العدل يعانون اليوم مثلهم مثل سائر فئات الشعب اللبناني فالمعاملات كما ذكرنا انخفضت في العدد والمردود. والترقيم السنوي الذي يعتمده الكتاب العدل شاهد على هذا الانخفاض. والأسوأ هو انخفاض الإيرادات التي يجنونها من تلك المعاملات فالمعاملة التي كان يربح فيها الكاتب العدل بالليرة اللبنانية مثلاً ما يوازي 100 دولار بات ربحها لا يتعدى 10$. وفي غياب العقود الكبرى غابت نسبة الأرباح المرتفعة. فاليوم معظم المعاملات هي معاملات صغيرة نسبياً بسبب الانكماش في الاقتصاد والتجارة وعمليات البيع والشراء. وحدها بعض المعاملات التي لا يمكن الاستغناء عنها ما زالت قائمة وبعض المعاملات التي طرأت حديثاً مثل الإقرار بوجود مبالغ مالية نقدية بالدولار في البيت للتكفل بتسديد نفقات مسافر أو غيره بدل كشف الحساب المصرفي الذي كان معتمداً سابقاً.
كذلك شكل وجود السوريين في لبنان مجالاً للمزيد من المعاملات عند الكتاب العدل وذلك منذ بداية أزمة اللجوء مثل كفالات العمل أو تعهد مسؤولية وبعض المستندات لتقديمها الى الأمم المتحدة مثل التصريح بعدم العمل. وتؤكد إحدى كاتبات العدل أن السوريين يدفعون المتوجب عليهم دون ” نق” أو سؤال عن الرسوم في حين ان ظاهرة ” النق” باتت خبزاً يومياً عند الزبائن اللبنانيين.
باختصار الدولة لا تزال تستوفي الرسوم ذاتها وان اختلفت قيمتها بعض الشيء بالنسبة الى سعر الدولار المعتمد رسمياً او عبر صيرفة بالنسة للعقود الموقعة بالدولار الأميركي أما بالنسبة الى العقود بالليرة اللبنانية فلا يزال مردودها ذاته على الدولة وثمة اتجاه حالياً لإعادة تقويم شاملة لهذا الأمر من قبل وزارة العدل.
الدولة حرة في التغاضي عن مداخيلها ويكفي ما فرضته من رسوم وضرائب جديدة ولكن استمرار الانهيار المالي أوجب على الكتاب العدل زيادة بدل أتعابهم أقله لتسديد كلفة تشغيل مكاتبهم. فهم في النهاية عمود من أعمدة العدل المترنح في هذا البلد وإذا ما انهار انهار معه جزء كبير من المسوّغات القانونية التي تحكم العلاقات بين الناس وتضمن مصالحهم وحقوقهم وتمنع الخلافات بينهم.