النظرة السائدة حول «أنصار الله»، تحسبهم على حركات الصعود الشيعي، كما في لبنان والعراق والبحرين (وغداً… في شرق الجزيرة العربية)؛ كذلك، فهي تدرجهم في عداد حلفاء إيران، أو أدواتها الإقليمية، كما يحلو للدعاية السعودية أن تصف القوى والأنظمة التي تسير في خط المقاومة. غير أن التدقيق في حالة «أنصار الله «، تقود الباحث المنصف إلى أننا أمام حركة مقاومة شعبية من نوع جديد، ولا تمثّل تكراراً لسواها، ولا يمكن فهم صعودها، من منظار شيعي أو إيراني.
لا أشير، هنا، إلى الاختلافات بين المذهب الزيدي الذي يتبعه «أنصار الله»، والمذهب الاثني عشري الذي تتبعه الحركات الشيعية الأخرى؛ خصوصاً أن الزعامة الحوثية تنتمي إلى فرقة زيدية أقرب إلى التشيّع الاثني عشريّ. كذلك، لا أذهب إلى سجال دعائي ينفي العلاقات المتعددة الأشكال بين الحوثيين وحزب الله والجمهورية الإسلامية في إيران؛ إنما أقصد أننا أمام حركة نشأت في سياق يماني خاص، ومركّب من ضفيرة من العناصر السسيو ــــ ثقافية والسيا ــــ جتماعية، كما سيأتي التفصيل فيه لاحقا. ولكن، دعونا نلاحظ، الآن، أن حزب الله نشأ، منذ البداية، في سياق علاقة فقهية وسياسية ودفاعية مع إيران، وبالتحالف مع شريكٍ إقليمي (سوريا)، وتقيّد، لزمن طويل نسبياً، بحدود المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي. ولعل حصرية مهمة تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة وبناء توازن الردع مع الكيان الصهيوني، هي التي حددت حركة الحزب خارج الصراعات اللبنانية، وحوّلته، داخلياً، إلى ممثّل لطائفة في نظام طائفي. وهو وضع شلّ الطاقات الروحية والسياسية والقتالية الكبيرة لحزب الله، بعد التحرير في العام 2000، حتى تسنى له الخروج، لدى اندلاع الصراع في سوريا وتجدده في العراق، ما بعد 2011، من القمقم اللبناني، متحوّلا إلى قوة إقليمية، وجزءًا من معادلة إقليمية، أصبح فيها الشأن اللبناني، هامشياً. هكذا، بالخلاصة، وصل اللبنانيون الطامحون إلى بناء دولة وطنية مدنية حديثة، قبل 2011 وبعده، إلى اليأس؛ فمن دون قوة حزب الله لا يمكن التفكير بالتغيير في لبنان، بينما قفز الحزب من التموضع في النظام الطائفي اللبناني إلى كسر الحدود، والتصدي لمهمات عربية تحررية، تاركاً ذلك النظام وراءه في الحفظ والصون. (إلا أن كسر الحدود ذاك، قد يفتح باب الحل الجذري للأزمة التكوينية اللبنانية، كما للأزمة التكوينية الأردنية، في أفق اتحادي مع سوريا والعراق).
المواطن اليمني الطامح إلى دولة وطنية حديثة مستقلة مزدهرة، على العكس من نظيره اللبناني، قادرٌ، مع «أنصار الله»، على الأمل القريب المنال؛ فاليمن كيانٌ وطنيٌ ضاربٌ في أعماق التاريخ، وحركة «أنصار الله»، في جذرها التأسيسي ومضمونها التاريخي كما في خطابها السياسي وممارساتها السياسية، حركة وطنية تحررية، لا حركة تنحصر في تمثيل مكوّن طائفي، ولا سقفها المقاومة، ولا هي حركة معارضة وطنية ديموقراطية (كما في البحرين)، ولا معارضة جزئية أمسكت بالسلطة جرّاء سقوط الدولة (كما في العراق)، بل حركة استرداد الذات الوطنية وبناء الدولة.
هنا، لا تمثّل الزيدية، بمدارسها العقائدية الشيعية وفقهها الحنفي السنّي، مذهباً مسيساً ولا طائفة، وإنما تعكس، أولاً، وقبل كل سجال ديني ــــ مذهبي، نزعة الاستقلال الروحي الثقافي في مواجهة الاستتباع الوهّابي السعودي. ثلثا اليمنيين، تاريخياً، زيديون، وثلثهم الباقي شوافع. والتلاقي الزيدي ــــ الشافعي، المتجانس المتسامح، ليس ضرباً من الابداع الديني، وإنما هو تعبير مبدع عن ثقافة مجتمعية كيانية، متصلة بتاريخ البلد وتقاليد العلاقات القبلية. هي، إذاً، روح اليمن وذاتها التي سعى الوهّابيون السعوديون، إلى تحطيمها بالقوّة، منتزعين، بالعدوان، العام 1934، من أرض اليمن، ثلاثة أقاليم (نجران وجيزان وعسير)، فرضوا عليها الوهّابية بالسيف، ومستمرّين بتنفيذ وصية الداعشيّ المؤسس، عبد العزيز، بمعاداة اليمن، ومنعها من الوحدة والتقدم، بكل الوسائل، بما في ذلك التدخّل العسكري ضد الجمهورية اليمنية، مطلع الستينيات. تلك الجمهورية التي آلت إلى التفكك والضياع، بينما استخدم السعوديون، منذ أواسط السبعينيات، كل الوسائل السود من شراء الضمائر والتآمر والتدخل الأمني في خط تخريب أي نهوض يمني، وتحديداً في ضرب روح اليمن من خلال التبشير الوهّابي ودعم ترويكا الإخوان المسلمين والفساد والإرهاب.
يقظة الزيدية ــــ المنسجمة مع يقظة شافعية آتية ــــ هي حركة العودة إلى الذات اليمنية، المتجهة إلى التحرر الروحي والثقافي من أدران الوهّابية والإخوان والقاعدة، واستعادة المستوى التأسيسي للدولة الوطنية انطلاقا من استعادة التطابق بين الاحتياجات الاجتماعية والسياق الثقافي؛ ترصيص التكوين القبلي في عملية سياسية وطنية وتنموية مستقلة، وعلامة استقلالها الأولى تتمثّل في نبذ المذاهب الغريبة عن الكيان اليمني.