IMLebanon

ملاحظاتٌ على نقاش مصري ومصيري

أتابع المقالات والمواقف التي تصدر بمناسبة الذكرى الخامسة لثورة 25 يناير المصرية، ثورة ميدان التحرير التي أشعلها جيل الشباب المديني المصري “المعولَم” من الطبقات الوسطى، ولديّ بعض الملاحظات على هذا “الإحياء” للذكرى الذي هو إحياءٌ يتراوح بين النَّدْبِ والاحتفالية و التقريع في الصحافات المصرية والعربية والغربية وبين الظاهرة المؤسفة لغياب أي احتفال “ميداني” شعبي يليق بها في القاهرة نفسها.

الملاحظة الأولى هي ميل عدد من هذه المقالات (خارج مصر) لتحميل السلطة الحالية وحدها مسؤولية جمود أو سقوط التحولات الثورية قياساً على معيار واحد هو مظاهر الضبط البوليسي. دون السؤال عن معايير أخرى مرتبطة تتعلّق بمسؤولية النخب وقوى المجتمع عن “السماح” بِـ أو عدم القدرة على منع هذا السقوط. فبالنتيجة السؤال الكبير هو لماذا لم يتحمّل المجتمع المصري ديناميةَ الثورة الشبابية الديموقراطية وأنتج خطرَ الحرب الأهلية واحتمال انهيار الدولة والمجتمع معا.

لذلك فإن الملاحظة الثانية المباشرة هي تحجيم النقاش للمخاطر الوجودية على مصر، فهذه المخاطر هي التي أنتجت الظاهرة السلطوية الحالية. إذ يجب الاعتراف وبشجاعة حتى لا نسقط في الاتهامية السهلة أن هذه السلطة الحالية تقود عملية منع انهيار الدولة والمجتمع في مواجهة حرب كاملة يخوضها الإسلاميون من كل الأنواع الجهادية بمن فيها “الإخوان المسلمون” ضد الاستقرار المصري أيا تكن الطبيعة غير الديموقراطية لهذا الاستقرار. ومع أن مصدرا مُهِمّاً لقوة الجيش المصري في هذه المواجهة يكمن في الثقافة السلمية العميقة للشعب المصري، عبّرت عنه حركة الثلاثين من يونيو، فإن التقييم الدقيق لهذه الحرب الإرهابية بين عوامل الداخل وعوامل الخارج لم يتضح بعد رغم البعد الخارجي المفضوح فيها.

الملاحظة الثالثة والتي ينبغي الوقوف عندها بمزيج من التعجُّب والمرارة هي المتعلقة بسؤال: لماذا تستمر السلطة المصرية الحالية في التشديد والتضييق على العديد من الحركات الشبابية المدنية والسلمية بل والديموقراطية مع معرفتها، أي السلطة، أن هذه الحركات معادية للتيارات الإسلامية الإرهابية ناهيك عن أنها لا تشكِّل أي خطر حقيقي على الأمن المصري. لن أتخلّى هنا، مثل كثيرين، عن سؤال أطرحه ببساطة منذ سقوط الرئيس محمد مرسي و”الإخوان” هو ماذا يفعل هؤلاء الشباب الذين ساهموا في إسقاط الحكم الإخواني في زنازين السجون إلى الآن؟ هؤلاء الحلفاء المفترَضون للوضع الجديد لماذا يقبعون في السجون؟

لكن كل هذا الاستنكار لا يمنع من نقد بعض النقد السائد للسلطة الحالية لأنه نقدٌ يقوم عميقاً على عدم رؤية المخاطر الوجودية على مصر التي تسببها الحرب الكاملة الرهيبة الحالية ضد السيادة والدولة والمجتمع المصريين؟

مصر التي تشملها المخاطر المستقبلية الاستراتيجية على كل المنطقة تنفرد بإنجاز، ويجب أن نسمِّيه إنجازاً من دون تردُّد، هو الاحتفاظ بالتماسك الأمني والسياسي للبلد والدولة أي منع الانهيار الذي يعيشه كل المحيط من سوريا إلى العراق واليمن وليبيا.

بعد خمس سنوات على ثورة ميدان التحرير، وجدنا أنفسنا كعرب معنيين بالشأن العام في أتون انقسام في ما بيننا مفاجِئ بل غير متوقَّع هو الانقسام بين أولوية التغيير أو أولوية التماسك؟الآن النقاش متداخل وغير واضح وتكتنفه ضغوطات بل كوارث الحروب الأهلية. صحيفة ” المصري اليوم” أعدّت ملفاً في عددها يوم الإثنين المنصرم عن الدول التي اعتبرتها “نجت” تحت عنوان مُعَبِّر: “الناجون” من الربيع العربي. مجرد صياغته بهذه الروحية “النكبوية” لا تحتاج إلى تعليق.

سيسأل الجيل العربي اللاحق بعد ربع أو نصف قرن هل كانت مرحلتنا الحالية تتطلّب أولوية التماسك على التغيير أم التغيير على التماسك؟

قد تكون صعبةٌ الإجابة الآن ولكنها أقل صعوبة مما كان الأمر عليه قبل خمس سنوات. فبينما كان عدد المنحازين بالمطلق للأولوية الديموقراطية كاسحاً يومها، أصبح تدريجياً أقل أو أكثر التباسا بسبب الانهيار الهائل. لنستثن “الأعجوبة” التونسية المتواصلة. فالثورة التونسية الفريدة، الفريدة فعلاً، نجحت أولاً في تجاوز الخطر السلفي الإرهابي وعطّلت قدرته على تعطيل التغيير الديموقراطي، وهي اليوم تواجه مدى قدرتها على استيعاب المطالب والضغوط الاقتصادية، على الانتقال إلى التناغم بين الديموقراطية السياسية والعدالة الاجتماعية. فالاحتجاجات الكبيرة التي شهدَتْها المدن التونسية مؤخراً كأنما جاءت في التوقيت المؤاتي لذكرى 25 يناير ولتجعل من ميدان التحرير ليس ساحة مصرية بل ساحة عربية ينطرح فيها سؤال كل المستقبل العربي.

لا ساحة مشتركة في سوريا ولا ساحة مشتركة في العراق ولا ساحة مشتركة في اليمن ولا ساحة مشتركة في ليبيا بل مجرد خطوط تماس حربية ولا حتى ساحة مشتركة في لبنان الحرب الأهلية الباردة رغم المحاولة “الحراكية” الشبابية الموؤودة.

السؤال المصري العربي الكبير ومن ميدان التحرير: هل لهذه المنطقة مستقبل؟

من يجرؤ على الإجابة؟

سؤال مأساوي بعد خمس سنوات على ما اعتقدناه “الربيع العربي”. صحيح أن الروح “النكبوية” تحوّلت منذ عام 1948 إلى سمة ثابتة لرؤية العرب لأوضاعهم لكن ما نختبره اليوم ويختبرنا أقوى وأخطر وأشمل.

لقد احتفلت الصحافة المصرية بذكرى ثورة 25 يناير وعيد الشرطة معاً. كلاهما يستحق، الأولى للبلد الحيوي والثاني للبلد الآمن. لكنْ لماذا نضعهما في مواجهة بعضهما البعض؟ أليس من معادلة أخرى؟ إذا لم يكن كذلك فماذا يُفتَرض أن تكون ثورة 30 يونيو؟