Site icon IMLebanon

أفكّر جدياً بالهجرة غير الشرعية هرباً من الجحيم

 

نور كردية بلا هوية ولا كيان

 

 

يتعاملون معهم وكأنهم أقل شأناً. ينظرون إليهم “من فوق” بكثير من التعالي، وبكثير كثير من “التشاوف” والفوقية والتكبّر جاهلين، أو بالأصح متجاهلين، أنه كلما ارتفع الشريف تواضع وكلما ارتفع الوضيع تكبّر. جلجامش، البطل الأسطوري، الذي تعرفنا عليه في ملحمة جلجامش هو من أصلهم. إنه كردي. وها نحن، حين نضحك على زيّ “إنسان” نردد باستهزاء: متل الأكراد! فهل نحن جهلة أم نحن كبرنا في مجتمعات إذا لم تجد من تتنمّر عليه تنمرت على نفسها؟ نور أحمد، الكردية نور، المشحونة بحب بلادها والمملوءة بالقلق على غد أطفالها فتحت قلبها وتكلمت.

قصدناهم أو بالاصح قصدناهنّ. هنّ مجموعة نساء، كرديات، كنّ يطلقنَ من جمعية “جين”، الكائنة في الطبقة الرابعة من منزل بيروتي، مبادرة لإطلاق سراح أوجلان. كانت أصواتهنّ عالية. كنا يضحكنَ ويلتقطنَ الصوّر معا ويتبادلنَ النوادر ويتناولنَ “البيتي فور” ويشربنَ العصير نخب حرية عبدالله أوجلان أو “آيو” كما يسمونه، الذي أسس حزب العمال الكردستاني العام 1978 ويصفونه: بـ”البيئي الديموقراطي المتحرر” وهو القابع، منذ العام 1999، في احد سجون تركيا إنفاذاً لحكم بالمؤبد.

 

في إحدى ردهات البيت – الجمعية إمرأة تبتسم كثيراً لكن بعينين دامعتين. نراها تتحدث مع حنان عثمان، رئيسة رابطة نوروز الثقافية الإجتماعية في لبنان، حيناً، وتصغي حيناً آخر الى ناشطات أتين من بلاد بعيدة، من اليمن والسودان، ليناصرنَ مبادرة “الحرية لأوجلان”. جميلٌ هو لقاء النسوة حول “شأن عام” وقضية جامعة. إنهنّ يدافعن عنها برموش العينين. جميل أن يؤمن الإنسان، أي إنسان، أن شمس العدالة ستبزغ في يوم ما.

 

بعيداً عن “هيصة” النساء في جمعية جين الكردية، يشدنا نور “نور أحمد”. فما بالها؟ ولماذا كل هذا الحزن البادي في عينيها؟ مع كل كلمتين تتفوه بهما تتساقط بدل الدمعة دموع. تمسحها وتروي: “أنا نور أحمد، ولدت في لبنان منذ 39 عاماً. أنتمي الى قرية بطمان في تركيا التي هاجر أهلي منها قبل خمسين عاماً. خمسون عاماً في لبنان بلا هوية ولا أحلام ولا نور في آخر المطاف”.

 

نسألها عن بطمان فتجيب: “نسميها باللغة الكردية “إيلوه” وهي واقعة في جنوب شرق تركيا على نهر بطمان، وغالبية سكانها أكراد. إنها مدينة الأب الأبطال الخارقين. كانت تضم كتاباً ومثقفين كرداً إضطروا الى الهجرة منها. هاجرنا الى بلاد الله الواسعة ولبنان واحد منها. وهنا ولدت وكبرت وتزوجت وأنجبت وما زلت بلا هوية”. تمسح دمعتين. تسكت قليلاً. تفكر قليلاً. تنظر من الشباك وكأنها تسرح في مخيلتها بحثاً عن معالم قرية لم ترها في حياتها ولا تنتمي إلا إليها.

 

ولدان أنجبتهما نور، المتزوجة من كردي مشكلته مشكلتها، وهما: هيثم (7 سنوات) وبوليا (12 سنة). همّ هيثم وبوليا اليوم همها الوحيد. فمستقبلها، على ما قالت، بات وراءها أما مستقبلهما فمجهول. تعود لتذرف الدموع من جديد. نحاول ان نخفف عنها قليلاً طارحين عليها أسئلة كثيرة تبادرت للتوّ الى أذهاننا: أنت اليوم لبنانية كردية أم كردية لبنانية؟ تجيب بسرعة، بلا تفكير، وكأنها فكرت مراراً بسؤالنا قبل طرحه بكثير: “انا كردية فقط لا غير”.

 

أنا “بني آدمية”

 

تتكلم نور اللغة التركية بطلاقة. إنها لغة البيت ومجتمعها الصغير واللغة التي تعطيها الى ولديها وتقول: “كنا منذ صغرنا نتحدث اللغة الكردية في بيتنا وحين نخرج منه نحاول ألّا نفعل بسبب علامات الدهشة والإستغراب التي كانت، وتستمر، على محيا من يسمعنا نتكلم لغتنا الأصلية. وتقول “لا حقوق لنا. انا إنسانة. أنا “بني آدمية”. والإنسان، أي إنسان، يفترض ان يكون لديه حقوق لم نشعر بها قط. غير مسموح لنا ان نسأل حتى عن حقوقنا. وولداي غير مسموح لهما بالإنتساب الى مدارس رسمية. إبنتي تذهب الى مدرسة بعد الظهر مع النازحين السوريين. وتقول لي يومياً: ماما، لماذا لا أذهب الى مدرسة قبل الظهر مع رفيقاتي؟ هي لا تفهم بعد أن لا حقّ لها بذلك”.

 

يقترب هيثم من والدته. يقبلها على جبينها. نسأله عن مدرسته فينظر إلينا باستغراب فتتدخل “مصوبة” الكلام: “لم يذهب بعد الى المدرسة”. نتأكد منها من جديد عن عمره فتقول: “سبع سنوات ويتم قريباً الثماني”. ثماني سنوات وما زال بلا مدرسة؟ تؤكد ذلك شارحة: “إبنتي لم تدخل أيضاً الى المدرسة قبل هذا العمر”. هل معنى ذلك أنه سيدخل بعمر الثماني سنوات صف الحضانة؟ تجيب بإيماءة ودمعة. نسأله عن جنسيته فيقول: كردي. نسأله: أنت كردي لبناني؟ فيجيب: لا، كردي عربي.

 

نعود إليها لاستيضاحها عن طفولتها ومراهقتها وشبابها وعمرها. تقول: “لا أريد أن يعيش أولادي ما عشته”. هل عاشت قساوة لهذه الدرجة؟ تجيب “أردت ان اسافر الى بطمان (جنوب شرق تركيا) لرؤية اجدادي وبيوت اجدادي فلم اتمكن من الحصول على تأشيرة. أخشى ان يصاب هيثم وبوليا بمرض ما ولا اتمكن من توفير الطبابة لهما. لا ضمان لنا ولا استشفاء ولا علاج متاح. ثمة تمييز كبير في المعاملة هنا بين إنسان وإنسان. لم أتمكن من متابعة تعليمي. وسمعتُ في مراهقتي كثيراً من التنمر على اصولي. كنتُ إذا اردت الخروج مع صديقاتي اسمع امهاتهن يقلن لهن: لا، لا تخرجوا مع البنت الكردية. هؤلاء لا يفهمنَ الأصول الكردية ولا يعرفن ان لنا ثقافتنا التي نفتخر بها وان الأكرد بشر من لحم ودم يتألمون ويفرحون ويحلمون ويتمنون ويأملون”.

 

نطلب منها ان تخبر من لا يعرف الكورد، في العمق، عنهم فتجيب: “نتمتع بصفتين: قلبنا صاف نحب الناس ونحن على طبيعتنا لا نكذب ونحب من قلب قلبنا”.

 

لأنني كردية

 

لم تتابع نور تعليمها. حاولت ان تجد عملاً فلم تستطع. والعمل الذي وجدته رأت فيه تمييزاً كبيراً فغادرته على عجل وتقول: “تقدمت للعمل في مكتب طيران فقيل لي: نحن نعطي اللبناني مليون و800 الف ليرة اما انت فسنعطيك مليون أو مليون ومئة ألف. وهذا يكفيك فأنتِ كردية. كنت سأعمل نفس عمل غيري وربما أكثر فرفضت وقلت لهم: يعطيكم العافية”.

 

كل ما حصل مع نور ترك فيها جروحات عميقة. فباتت ملتصقة أكثر بكرديتها وغريبة عن بلاد ولدت وكبرت وأنجبت فيها. نسمعها تقول: “حاولت أن أتأقلم مع الأشياء، أن اتجاوزها، لكن القوانين حطمتني”. تعود لتنظر حولها، في الإطار الذي تسبح فيه منذ الولادة، كما المياه التي يسبح فيها الجنين، وتقول: “والله، والله، أعترف أنني من أجل مستقبل هيثم وبوليا أفكر في السفر بطريقة غير شرعية”. ما إن تعترف بذلك حتى تعود وتصمت وكأنها تعرف عاقبة ما تفكر به. نسألها ما إذا كانت قد رأت الأطفال الضحايا الذين غرقوا في البحر، قبالة طرابلس، لأن أهلهم فكروا بهكذا هجرة فتجيب: “أعرف كل ذلك. أفكر بكل ذلك. لكن، بيني وبين حالي، إذا صحّ لي ذلك فسأخوض غمار البحر بحثاً عن حياة. سيكون لدي على الأقل أمل بآفاق ما، بمستقبل ما، في مكان ما، أنقذ فيه ولديّ من الجحيم الذي يعيشان فيه”.

 

موجعٌ كلام نور. موجع النظر في عيني هيثم، الذي يكاد يبلغ عامه الثامن ولم يدخل بعد الى المدرسة. موجعٌ أن نسمع إمرأة، أماً، تتحدث عن حلم الهجرة غير الشرعية وهي مدركة، عالمة، بأخطار مثل هذه الرحلة.

 

نقرأ نكاتاً عن الأكراد: كردي إشترى جواز سفر واحد إسمه حسنين وبدّل الصورة. وسافر. سألوه: ما هو اسمك؟ أجاب: إثنان حسن. كردي رأى دعاية مارلبورو تأثر بها فاشترى حصان. كردي عرف أن الحفلة تنكرية أرسل شقيقه مكانه. كردي قال لوالده: ذاهب لأنتحر. أجابه: عظيم لكن لا تتأخر. كردي صيدلي سأله رجل: عندك دواء للصراصير؟ أجابه: خير مما يعانون؟ نكات نكات لا تنتهي… وتنمر على ما يرتديه الأكراد والنوّر و”المتاولة”. ثمة بشر يستمدون الأوكسيجين من العبث بمشاعر الآخرين. نور، في المقابل، تتحدث بفخر عن ملابس الأكراد وتقول: “نحن نرتدي الألوان الفرحة الزاهية التي تمنحنا التفاؤل. ونتشارك معا الأفراح والأتراح. ونحتفل في الحادي والعشرين من آذار بعيد النوروز الخاص بنا”. لدى نور ما تقوله الى كل الآخرين. تقوله باللغة الكردية ثم بالعربية: “أعطونا فرصة”.

 

في جمعية “جين”، وجين إسم أنثى معناه الألم، نصادف ألما كثيراً، ونسمع كثيراً من الحكايات عن ثقافة الكورد، ونصغي الى نساء يطالبن بالحرية لأوجلان وهنّ يسردنَ معنى الأسماء التي يمنحها الأكراد الى أطفالهم تعبيراً عن الإنتماء. نسمع باسم كوليستان (ومعناه وردة) وآفين (ومعناه حبّ وعشق) وديروك (ومعناه التاريخ) ووالات (معناه وطن) وآلان (معناه الراية والعلم) ونيروز (ومعناه الفرح) وديلان (معناه سرور وبهجة)… كثيرون يحرصون على التمسك بتلك الأسماء، التي تدل الى الهوية، كي يبقى الأكراد، أينما حلوا، يتذكرون أنهم هاجروا أرضهم بسبب الظلم والإضطهاد لكنهم، مهما ابتعدوا وطال الزمان، يبقون أولا وأخيراً أكراداً.

 

نترك نور في “المساحة” المتاحة لها. نتركها مع هيثم الذي لم يمسك، حتى اللحظة، بقلم ولا يعرف من الدنيا إلا جفاءها. نترك نور ونحن ندعوها الى الحرص، خوفاً عليها وعلى أطفالها وأسرتها من أن يقرنوا القول بالفعل ويصبحون، في يوم قريب، مشروع هجرة غير شرعية جديدة.