IMLebanon

أصبح عندي الآن استمارة لدى المخابرات الأردنية

تبدلت ملامح عنصر الأمن عندما أدخل بيانات جواز سفري في جهاز الكمبيوتر لدى وصولي إلى مطار الملكة علياء الدولي في العاصمة الأردنية عمّان. رمقني بنظرة فيها شيء من القرف، وبدأ يسألني عن عملي ومكان دراستي وإقامتي… كنت واحدة من سبع زميلات لبنانيات حضرن من بيروت لحضور مؤتمر إعلامي نسوي. جميعهن ختم عنصر آخر على جوازاتهن في دقائق قليلة، فيما كنت أنتظر أن يقرر العنصر مصيري.

أشاح بنظره عني واستأنف ختم جوازات مسافرين آخرين. قاطعتُه واستفسرت عن سبب انتظاري. «أقول لزميلاتي أن يذهبن؟» قلت. أجابني باستهزاء: «أجل قولي لهم ألا ينتظروكِ. إنت مطولة». ما السبب؟ قال: «تشابه أسماء»، وأشار عليّ بأن أراجع مكتب أمن المطار إلى حيث نقل جوازي. بعد أكثر من نصف ساعة من الانتظار أمامه، خرج عليّ ضابط ليطلب مني بلطف أن أراجع مقر الاستخبارات العامة في اليوم التالي «لنسألك كم سؤال بسبب مسألة تشابه أسماء». أعاد إليّ جوازي مرفقاً بورقة مراجعة دوّن عليها بخط يده عنوان المقر.

عند العاشرة صباحاً، ترجّلت إلى المقر. أشار إليّ العنصر الأمني عند المدخل بأن أمرّ عبر كاشف إلكتروني لونه أحمر. أمامي عدد من الغرف الجاهزة تشبه تلك التي تستخدمها قوات اليونيفيل وأجهزة أمنية لبنانية. مررت على كاشف إلكتروني ثان ثم أدخلت إلى غرفة تفتيش خاصة بالسيدات. هناك وضعت أغراضي في خزنة احتفظت بمفتاحها. الشرطية طلبت مني الاحتفاظ بمالي وشدّدت على ترك الهاتف والقلم. وأرفقت بجوازي بطاقة زرقاء تدل على نوع مراجعتي. أُدخِلت قاعة مقاعدها الخشبية تشبه مقاعد المحكمة. لكنها محطة انتظار الباص الذي سيقلنا إلى مكان ما لم يصرّحوا عنه. من حولي شبان وشابات وسيدات وعجائز بهيئات متنوعة ملأوا المقاعد. رغم الحشد، كان الصمت مخيّماً. الجميع ينظر إلى الأعلى أو الأسفل من دون أن ينظر بعضهم إلى البعض الآخر. تولّت الإشراف علينا سيدة محجبة بالزي العسكري كانوا ينادونها أم حمزة. تارة تمارس قسوة السجان وتارة تصطنع اللين واللطف. في الأردن الذي تتحكم فيه جرائم قتل النساء والتمييز ضدها، كانت أم حمزة تتحكم في الرجال الحاضرين. حتى هؤلاء بالجلباب الإسلامي واللحى الطويلة امتثلوا لأوامرها بطاعة بالغة. كانت تنظم جلوسنا بحسب لون البطاقة التي نحملها. «سلوك ومراجعة هنا وجوازات هناك…». وصل الباص. نادت أم حمزة على البنات أولاً للصعود. السائق عنصر أمني يرافقه عنصر آخر لـ»حفظ الأمن» بيننا. النوافذ غُطّيت بستائر بنية سميكة. ما إن جلست على مقعد حتى أزحت الستارة. «يا بنت سكريلي البرداية» نهرني العنصر. الصمت يخيّم على الرحلة أيضاً. يدعونا العنصر إلى مراجعة العنصر الجالس خلف الفاصل الزجاجي. ما إن أعطيته جوازي وأدخل اسمي في جهازه، حتى رماني بنظرة القرف ذاتها. فيما كان يرمي جوازي في إحدى زوايا مكتبه، أشار إليّ بأن أصعد إلى الطابق الأول وأنتظر إلى حين مناداتي. توجهت إلى غرفة كتب على بابها: «قاعة 47 للسيدات». ليست قاعة بل غرفة صغيرة فيها مقاعد حديدية تغطي جوانبها ونافذتان طوليتان صغيرتان حجبت الرؤية منهما بفاصل حديدي يقابلها كاميرا مراقبة ومذياع. في الغرفة، كانت المنتظرات متنوعات. فتاة فلسطينية حضرت معها والدتها. سيدات سوريات وأخريات عراقيات. من حديثهن، بدا أنهن ينتظرن منذ ساعات ليحين دورهن أمام المحقق. معظمهن أتين لمراجعات تتعلق بتجديد جواز السفر والإقامة وطلب تأشيرة لأقارب من فلسطين المحتلة. فالمخابرات تتولى متابعة شؤون النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين والمقيمين في الأراضي المحتلة. السيدة السورية المتزوجة من سعودي، سحبوا جواز سفرها لدى وصولها إلى الحدود البرية بين المملكتين وصادروا جوازها. لا تشفع لها جنسية زوجها الملكية. «جميع السوريين يخضعون لإجراءات مشددة وتصادر جوازاتهم».

عند رفع الأذان، اكتشفت أن الساعة تجاوزت الثانية عشرة والنصف. لا شيء يشير إلى الوقت ولا وسيلة اتصال. «مقطوعين عن العالم» تقول المنتظرات. عبر المذياع، كان ينادى على أسماء من اقترب الفرج بالنسبة إليهن. غادرت المنتظرات وفرغت الغرفة عليّ. فتح عنصر الباب ودعاني إلى مرافقته. سلمني إلى ضابط أخذني بدوره إلى الطابق الثاني. أدخلني إلى غرفة صغيرة فيها مكتب المحقق يقابله كرسي الاعتراف الصغير المحاذي للباب. قبل أن أحصل على موافقته، دنوت مع الكرسي من المكتب. وافق ورفع الاستمارة بين يديه لكي لا أقرأ ما فيها. بعد الترحيب بي، سألني عن بياناتي الشخصية، منها «أنت سنيّة أم شيعية؟». لماذا؟ سألته مستغربة، فقال:» أنا حر». قلت: «وأنا أيضاً حرة، لن أجيب».

بعد تمهيد عن حساسية دور الصحافي، قال إن معلومات وصلت من لبنان إلى الجهاز تفيد بأني أعمل لمصلحة «حركة أمل الشيعية». هل أنت متأكد من السؤال؟ قلت. أردف: «أنا أمهّد. والسؤال أنك متهمة بالعمل لمصلحة حزب الله وتجمعين لأجله معلومات في لبنان. ما هو تعليقك؟». استبَق جوابي بـ»التمييز بين حزب الله المقاوم والحزب صاحب المهمات في عدد من الدول العربية». حسمت قائلة: «ما دام المصدر والحزب وأنا وجغرافية التهمة لبنانيون، دع الأجهزة اللبنانية تحقق معي بعد عودتي، وإذا كان هناك ما يخصّ الأردن، تبلغكم إياه بموجب التعاون الأمني بينكم». أوضح أن «من حقي أن أكون حذراً من وجودك. ماذا يضمن أنك بعد مغادرتك لن تخربي علينا؟». ثم أردف: «استجوبت قبلَك 8 لبنانيين، وأجابوني بصورة عادية. لماذا تتمنّعين؟». على مضض، استسلم لإصراري على التمنّع عن الإجابة. أنهى الاستجواب بالإشارة إلى ردّ أصدره رئيس الحركة الإسلامية المجاهدة الشيخ جمال خطاب (في مخيم عين الحلوة) على مقابلة أجريتُها معه. «جمال خطاب يصفك بأنك غير شفافة. ما قولك؟». لم يكترث لتعجّبي من استشهاد ضابط استخبارات أردني بردّ خطّاب على مقابلة أجريت قبل أكثر من أربع سنوات.

طوال التحقيق، حاول الضابط أن يبدو لطيفاً رغم ملامحه الجدية والقاسية. طمأنني إلى أني ضيفة الأردن ويمكنني المجيء متى أردت، إلى درجة اقترح عليّ تقديمي إلى «الباشا» (يقصد مدير الاستخبارات) لإجراء مقابلة معه. رفضت قائلة إن طلب المقابلة تحدّده إدارة الجريدة. أوصلني إلى مكتب زميل له حيث أنتظر مع مراجعين آخرين الباص الذي أعادنا إلى القاعة. تسلّمت أغراضي بعيد الثانية بعد الظهر، وعدت سيراً على القدمين، إذ إن خدمة الباص متوافرة عند الدخول فقط. الضابط أكد أنني لن أواجه مجدداً إشكالاً في مطار عمان، مع ذلك أوقفني عنصر ختم الجوازات عند مغادرتي واقتادني إلى مكتب أمن المطار. وبعد مراجعة الاستخبارات، حرّروني وأعادوا إليّ جواز سفري. صار عندي استمارة أمنية لدى المخابرات الأردنية.

نهر الأردن لا يغسل آثار القدم الهمجية

في الطريق إلى نهر الأردن، نمرّ بين السفارتين السورية والسعودية. أمام السفارة الأولى تصطف طوابير العشرات تحت حرّ الشمس. على الجانب الآخر، تتمدّد سفارة المملكة قاطعة الطريق أمامها لدواع أمنية ورافعة الأسوار والأسلاك وكاميرات المراقبة وحواجز التفتيش. إلى الوادي المقدس حيث تعمّد المسيح، يرافقنا دليل من هيئة تنشيط السياحة الأردنية. يستعيد المعلومات التاريخية عن الموقع دينياً وجغرافياً. عن تحول نهر الأردن إلى ساقية، يقول إن السبب جفاف الأمطار وتغيّر المناخ. ما من أسباب أخرى؟ أسأله ملمّحة إلى دور العدو الإسرائيلي الرابض على الضفة الغربية من النهر وكيف يسرق المياه ويضخّها نحو بحيرة طبريا. يتجاهل الإجابة. وفي حديث جانبي، يهمس مبرراً عدم ذكر إسرائيل «أنا لا أتكلم بالسياسة». في آخر الموقع، يفصل النهر الحدود بين المملكة والضفة الغربية المحتلة. في المياه، وضعت طفافات لترسيم الحدود ممنوع المس بها كما النزول إلى النهر. في الضفة الشرقية جنديان أردنيان يحرسان. وفي الضفة الغربية مقر عسكري ضخم يعلوه العلم الإسرائيلي. قبالة مغطس المسيح، استحدث العدو قبة رفع فوقها الصليب. قال جندي أردني إنها «تمثيلية ليقولوا لزائري المغطس إنهم متسامحون».