بسرعة قياسية «صرف» رئيس الحكومة الاسبق سعد الحريري نتائج زياراته الخارجية، فمحاولته الظهور «كرجل دولة» من «بوابة» واشنطن وموسكو، تلاشت بسرعة قياسية في بيروت، لم يكن يرغب في هذا «الضجيج» العالي في مواجهة القضاء العسكري، كان يريد «الاجهاز» على هذه المؤسسة «بخبث» وهدوء ودون ان يواجه اتهامات بمحاولة التدخل بالقضاء وضرب المؤسسات الديموقراطية، لكن حظه العاثر، «وقصر نظر» «هواة» السياسة في فريقه المنخرطين في صراعات داخلية، ورطته في معركة لا محال فيها لتحقيق اي أرباح.
وبحسب اوساط مطلعة على اجواء «التيار الازرق»، فان الدائرة المحيطة بالرئيس الحريري نصحته بعدم الانجراف وراء «انفعال» وزير العدل اشرف ريفي الذي اختار «سقف المواجهة» دون مراجعته مسبقا، لكنه اضطر في وقت لاحق الى «تغطية» قرار وزيره بعد ان اصبح في موقف حرج لا يحسد عليه، فهو وضع امام خيارين، اما «فرملة» اندفاعة ريفي وبالتالي الظهور بموقف ضعيف امام الشارع السني عموما، والشمالي خصوصا، «الغاضب» اصلا على «التيار الازرق»منذ «خيانة» «قادة المحاور»، او تبني الحملة الراهنة وحفظ «ماء وجهه» والايحاء بان ما جرى منسق معه وبتوجيه منه. واختار طبعا الخيار الثاني لانه الاقل سوءا وليس الاقل ضررا.
لا يعني ذلك أن الرئيس الحريري غير موافق على استراتيجية تيار المستقبل «لالغاء» المحكمة العسكرية، فمنذ أن تولى فريقه السياسي وزارة العدل بعد اغتيال والده، وهو يعمل جاهداً للهيمنة على المحكمة العسكرية، ولكنه كان يصطدم دائماً بالتوازنات الداخلية، وبرفض الضباط في هذه المحكمة تسييس العمل القضائي العسكري، لكن الحريري ليس راغبا بان يحصل هذا الامر «بالصخب» الحالي، فهو مع سياسة «النفس الطويل» التي بدأت بتطويق المحكمة مرة عبر تعيين مفوض حكومة يقول تيار المستقبل انه «يدور في فلكه»، ومن خلال مشروع القانون الذي ينقل صلاحيات القضاء العسكري إلى القضاء العدلي، وهو يخشى الان من فشل المشروع نتيجة «الغلو» في رفع سقف التحدي بوجه الفريق الاخر الذي لن يقبل ان «يهزم» من «بوابة» المحكمة العسكرية بعد ان حولها الوزير ريفي الى عنوان لهزيمة سوريا «وعملائها» في لبنان.
وبحسب اوساط بارزة في 8 آذار، فان الحملة على المحكمة العسكرية تحمل بعدين الاول يرتبط بالصراع الدائر على النفوذ داخل تيار المستقبل، الثاني يرتبط بالمشكلة «الازلية» الكامنة بين تيار المستقبل وفريق 14 آذار مع «البدلة المرقطة». في البعد الاول يحاول وزير العدل سحب «البساط» من تحت زميله وزير الداخلية نهاد المشنوق الذي بنى «امجاده» الاخيرة على «اكتافه»، وذلك من خلال ذهابه بعيدا في معالجة الملف الامني في طرابلس، وكذلك اقفال «امارة» سجن رومية، طبعا لم يكن فقط بروز المشنوق «كرجل دولة» مسؤول، ما اثار قلق وزير العدل، وليس المنافسة على رئاسة الحكومة المقبلة هي السبب الوحيد «لغضب» ريفي، وانما تأثير قراراته على شعبيته في الشارع الشمالي عموما والطرابلسي خصوصا، بعد اتهامات مباشرة من الفعاليات الاسلامية وعلى رأسها هيئة العلماء المسلمين لريفي بالتواطؤ مع زميله عبر الادعاء بعدم قدرته على «المونة» عليه، ويبدو ان وزير العدل قد وجد في قرار المحكمة العسكرية الاخير فرصة سانحة لاستعادة «البريق» الذي فقده، ولو كان هذا الامر على حساب «انهيار» كل الشعارات التي عمل رئيس تيار المستقبل على تردادها، تحت عنوان تيار الاعتدال الطامح لبناء دولة المؤسسات.
وتلفت تلك الاوساط الى ان مخاوف ريفي من المحكمة العسكرية ترتبط بما هو آت، وليس فقط بما صدر من حكم على الوزير سماحة، فاحد اهداف وزير العدل في اعلان الحرب على القضاء العسكري، لا يتعلق بتسريع البت بملف الاسلاميين الموقوفين في رومية، فملفات هؤلاء اخذت مجراها القانوني ووصلت الى خواتيمها، لكن عملية «الترهيب» الاستباقية ترتبط باتهامات ساقها ابرز قادة المحاور في طرابلس الموقوفين امام المحكمة العسكرية، زياد علوكي وسعد المصري، للمسؤول العسكري في تيار المستقبل، عميد حمود المعروف بانه «اليد اليمنى» لوزير العدل، بالمسؤولية عن تمويل المواجهات، ومد المجموعات المسلحة بالسلاح، وقد جاء الإجراء الذي اتخذه عقابا للقاضية ليلى رعيدي بإحالتها إلى التفتيش القضائي، «رسالة» تهديد واضحة للقضاة، ورسم مسبق «لخطوط حمراء» يسعى ريفي الى رسمها امام المحكمة العسكرية لمنعها من التوسع في هذه القضية التي ستؤدي الى سقوط رؤوس كبيرة في «المستقبل»، والا كيف يمكن تفسير القرار بمعاقبة قاضٍ على حكم اتخذه على قوس المحكمة وهي سابقة لا مثيل لها في تاريخ القضاء؟ وهل سيجرؤ اي قاض على اصدار احكام مخالفة لرغبات وزير العدل وفريقه السياسي بعد ان سجل سابقة ستجعل كلّ قاض عرضة لمحاسبة من هذا النوع؟.
وتلفت تلك الاوساط الى ان الهجمة الحالية على القضاء العسكري خسارة مدوية سجلت في خانة 14 آذار قبل ان تبدأ «معركة» اسقاط هذه المؤسسة، لقد سقط «القناع» الى غير رجعة، فبعد الحملات المنظمة على المؤسسة العسكرية والمحاولات المتواصلة «لتدجينها»، جاء دور «القضاء العسكري» لتسقط «ورقة التين» الاخيرة التي كانت تغطي زيف مشروع «العبور الى الدولة»، خصوصا ان فريق 8 آذار وحزب الله تعاملا بحكمة ومسؤولية «رجال الدولة» مع قرارات سابقة للمحكمة العسكرية، لم تكن تتوافق ابدا مع المصالح الوطنية، وكذلك مع التوجهات السياسية لهذا الفريق، فالأحكام الصادرة على العملاء اللحديين لم تتجاوز سنتين وثلاث سنوات، وكذلك الاحكام بحق «التكفيريين»، ورغم الاعتراضات لم تذهب هذه القوى الى حد ارتكاب «جريمة» هدم المؤسسة القضائية، في المقابل مارس رئيس الجمهورية» كيدا» سياسيا عندما كافأ القاضية اليس شبطيني وعينها في الحكومة رغم مسؤوليتها عن عدد من تلك الاحكام، وذلك بمباركة فريق 14آذار، ولم يعترض اللواء ريفي وفريقه السياسي باعتبار ان العادلة تنطلق من حسابات المصالح وليس مبدأ الانصاف.
وازاء ما تقدم يبدو فريق 8 آذار وفي مقدمتهم حزب الله، امام فرصة تاريخية لخوض غمار حملة الدفاع عن مؤسسات الدولة، فالحريري مربك وفريقه السياسي وضعه في «مأزق» سيتحول الى خسارة مدوية اذا احسن خصومه استغلاله، لكنه لا يلام على اخفاقاته المتلاحقة، «فعقدة النقص» تلازمه بعد ان وضع نفسه في مقارعة غير متوازنة مع «خصمه» الاستراتيجي على الساحة اللبنانية، وبات رئيس تيار المستقبل يعاني من «لعنة» النجاح المتواصل للامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وهذا ما يدفعه الى «التورط» في معارك وهمية في محاولة للاستدراك، وهو ما ينطبق اليوم على المواجهة المفتوحة مع المحكمة العسكرية التي يبدو انه تورط بها مع ادراكه المسبق بان خسائرها ستكون اكثر من ارباحها، وفيما هو يخوض «حربا» مع «طواحين الهواء» سيخرج السيد نصرالله اليوم ليرسم معالم المرحلة المقبلة في لبنان والمنطقة، بعد ان حسم «رجال الله» معركة القلمون مع الارهاب، وتبرع الحريري بتبني الهزيمة مسبقا.!!!