في جلسةٍ مع بعض الضيوف اللبنانيين، يسأل ديبلوماسي غربي خبير بالمسائل اللبنانية: لو جاءكم أحد في العام 1990 وأخبركم أنّ «القوات اللبنانية» التي كانت آنذاك بالغة القوة والتنظيم ستُسلّم السلاح بعد أشهر، لقلتم له: أنتَ تتحدَّث عن سراب! ولو جاءكم أحد في العام 2004 وأخبركم أنّ القوات السورية التي تتحكَّم بكل مفاصل السلطة والسياسة والأمن والاقتصاد على وشك المغادرة بعد أشهر، لقلتم له: إنّ توقعاتك من نسج الخيال!
يضيف الديبلوماسي: بناءً على هاتين التجربتين، وتجارب لبنانية أخرى على مدى عشرات السنين الفائتة، يمكن القول: إنّ الحلول التي تبدو اليوم مستحيلة في لبنان، قد تصبح حقيقة واقعة في أي لحظة بعد أشهر، إذا تقاطعت التسويات الإقليمية والدولية.
والبلد الغارق اليوم في هوَّة الانهيار السحيقة، التي يُعتقَد أنّ لا خروج منها، قد يصبح وارداً انتشاله سريعاً حينذاك. وحتى سلاح «حزب الله»، الذي لطالما كان العقدة الأقسى، يصبح مسألة قابلة للمعالجة. فلا تستبعدوا أن يولد الحلّ في لبنان فجأة، ودفعة واحدة.
فإذا كانت الخلفية الحقيقية للأزمة الحالية هي النزاعات الإقليمية والدولية على رقعة الشرق الأوسط، فإنّ هذه النزاعات قد تشهد تحوُّلات مفصلية نحو التسوية في المدى المنظور. وفي هذه الحال، يصبح الحلّ الداخلي في لبنان أمراً متيسِّراً.
يُسأل الديبلوماسي: ولكن، ولنفترض أنّ القوى الإقليمية والدولية أنهت صراعاتها في لبنان بالتوافقات الكبرى، فكيف يتوافق اللبنانيون على المسائل الجوهرية الأخرى التي تُمزِّقهم، والمتعلقة بالتركيبة وتوازنات النفوذ الطائفية والمذهبية؟ أي، بمعزل عن تدخّلات الأميركيين والإيرانيين والسوريين والعرب، هل سيتوافق المسيحيون والشيعة والسنُّة والدروز على صيغة وطنية قابلة للعيش؟
فلا «اتفاق الطائف» نجح، ولا «اتفاق الدوحة»، ولا مؤتمرات الحوار ولا «إعلان بعبدا». والأسوأ أنّ اللبنانيين فشلوا في تأسيس علاقة استقرار جديدة في ما بينهم بعد خروج السوريين في العام 2005، وأظهروا أنّهم لم يبلغوا فعلاً «سنّ الرشد» ليديروا شؤونهم بأنفسهم. وهذا يعني أنّ الاتفاقات والمواثيق والحوارات السابقة لم تعالج حقيقة المشكلات اللبنانية الجوهرية.
يقول الديبلوماسي: على مدى نصف قرن، اهتزّ استقرار لبنان لأنّ القوى الخارجية بقيت تتنازع بواسطة اللبنانيين. ولكن، إذا وصل النزاع الإقليمي – الدولي إلى تسويات ثابتة، فطبيعي أن يكون لبنان جزءاً من خريطة التوافقات كما كان جزءاً من خريطة النزاعات.
وفي هذه الحال، إنّ القوى التي تسبَّبت بالتشرذم اللبناني وحرَّضت عليه ستكون هي نفسها الضامنة للاستقرار. وعندئذٍ سترعى المؤتمر الدولي- التأسيسي من أجل إقرار صيغة جديدة للبنان، تكون انعكاساً للتسويات الكبرى.
والقوى اللبنانية المتنازعة باتت كلها اليوم مقتنعة بأنّ لا مخرج من الأزمة إلاّ بهذا المؤتمر. ففيما يريد «حزب الله» «مؤتمراً تأسيسياً»، يصرّ البطريرك الماروني بشارة الراعي على الدعوة إلى «مؤتمر دولي من أجل إنقاذ لبنان».
طبعاً، هناك اختلاف بينهما في الرؤية والهدف. فـ«الحزب» يريد من المؤتمر التأسيسي أن يكرّس داخل منظومة السلطة مكاسبه التي راكمها على مدى نصف قرن، والتي كلّفته كثيراً. وأما البطريرك فينطلق من الخوف القديم على ضياع «الخصوصيات المسيحية» في لبنان بتأثير من عاملين: القوة والعدد. وهي «الخصوصيات» أيضاً التي كلّفت المسيحيين كثيراً. وبين المسيحيين والشيعة، طبعاً للسنَّة والدروز رؤاهم وأهدافهم أيضاً.
وللتذكير، في أول حزيران 2012، أطلق الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله اقتراحه الشهير بالمؤتمر التأسيسي، فقال: «علينا أن نعالج الأسباب من أجل بناء دولة حقيقية، فنقيم مؤتمر حوارٍ وطنيٍّ، ومؤتمراً تأسيسياً وطنياً في لبنان، على غرار المؤتمرات التي تُعقد في أماكن أخرى من العالم العربي (حينذاك) (…) ويمكن أن ننتخب مؤتمراً تأسيسياً، لا على أساس طائفي، بل على أساس شرائح ونِسب مئوية. وتكون أمام المؤتمر مهلة 6 أشهر أو سنة، لمناقشة كل الخيارات».
إذاً، في الأساس، يمتلك «الحزب» تصوُّراً متكاملاً عن الدور الذي سيؤديه المؤتمر التأسيسي في تغيير الصيغة القديمة، أو النظام القديم الذي لطالما حاربه علناً أو سرّاً، وهو القائم على ركيزة امتيازات 1943 المارونية- السنّية. وعلى الأرجح، لم يعد في مقدور أحد أن يتهرَّب من إشراك الشيعة بفاعلية في عمق النظام والسلطة.
ولكن، في المقابل، يدرك الشريك الشيعي، وسيزداد إدراكاً، أنّ وزن السلاح لن يخوّله الإمساك بالسلطة وحده وإدارة البلد بما فيه ومَن فيه، ولو نجح الإيرانيون في إبرام اتفاق مع القوى الدولية، وأنّ لبنان لا يمكن أن يكون «نظاماً» عربياً يحكمه طرفٌ، ولو كان أقليّاً طائفياً أو سياسياً، وأنّه إذا أصرّ على السيطرة فلن يستقرّ البلد إطلاقاً.
ما يتوقعه المتابعون، وما يتمّ تداوله في بعض الأقنية الديبلوماسية، هو دمج الفكرتين معاً: المؤتمر التأسيسي والمؤتمر الدولي، بحيث يتفاهم اللبنانيون على أسس جديدة لتركيبة الدولة، بتغطية إقليمية ودولية مباشرة. والأرجح أنّ ذلك سيحين أوانه مع ظهور التسويات الكبرى، سواء في مسائل النزاع القديمة مع إسرائيل أو في ما يتعلق بنفوذ إيران الإقليمي.
وثمة مَن يعتقد أنّ التسويات ربما اقتربت فعلاً، بدءاً بالاتفاق الذي بات شبه ناضج في فيينا، وهي ستسقط فجأة على الجميع. وربما تكون في هذه التسويات مصلحة لهم، لأنّهم محشورون، ولأنّ انتظارهم سيرفع حجم الخسائر التي سيتكبّدونها.