IMLebanon

الاتفاق النووي مجدداً… يحرّك القنابل الموقوتة

 

غسل الرئيس دونالد ترامب يديه من الاتفاق النووي. لم يعلن انسحاب بلاده من هذا العقد الدولي. ولم يضع «الحرس الثوري» على لائحة الإرهاب. اكتفى بالدعوة إلى فرض عقوبات عليه. رمى بالمسؤولية على كاهل الكونغرس، وعلى الحلفاء أيضاً المعنيين بالاتفاق. نجح رجال إدارته في الخارجية والدفاع في كبح جموحه. والواقع أن العالم لم يكن يحتاج إلى كل هذا الضجيج والتحذير من حرب ضروس. فلا الرئيس الأميركي كان سيمسح توقيع الإدارة السابقة، ولا إيران جندت أجنادها للرد وضرب القواعد الأميركية في المنطقة. الخيار العسكري لم يكن مطروحاً. أفضل ما يمكن أن تلجأ الجمهورية الإسلامية اليه هو نهج كوريا الشمالية. في ذروة التصعيد بينها وبين واشنطن قبل سنوات لم تجرؤ حتى على إقفال مضيق هرمز كما كانت تتوعد أيام محمود أحمدي نجاد. وحتى تلويحها بالخروج على الاتفاق إذا نقضته أميركا لم يكن جدياً. تبدل المشهد الاستراتيجي في العالم والإقليم في السنوات الأخيرة، وخير دليل أن لا إجماع اليوم على فرض العقوبات مجدداً على إيران. حتى حلفاء الولايات المتحدة من الأوروبيين أعلنوا تمسكهم بتواقيعهم على الاتفاق باعتباره يخدم مصالحها. وستتمسك القيادة الإيرانية بهذا الإنجاز وما جر عليها من منافع لم تكن تتوقعها. يكفي أنه أبعد خيار الحرب الذي كانت تردد إدارة جورج بوش الابن أنه على الطاولة. وأفادها بإعادة ترميم اقتصادها المتهالك. واطمأنت إلى أن الولايات المتحدة لن تعمل على تغيير النظام. أصلاً كانت إدارة الرئيس باراك أوباما من زمن نأت بنفسها عن التظاهرات التي اندلعت في العام 2009 احتجاجاً على إعادة انتخاب الرئيس نجاد لولاية ثانية.

كان متوقعاً منذ أسابيع أن البيت الأبيض سيوجه ضربة إلى الاتفاق لكنها لن تكون… قاضية. وأوضح الرئيس ترامب ما كان وزير خارجيته صرح به قبل أسابيع: المشكلة ليست في عدم احترام طهران التزاماتها، بل في خرقها روح الاتفاق. بالطبع لا شيء في النص عن هذه «الروح». كان الرئيس أوباما يتوقع أن إبرام اتفاق تاريخي سيعيد إيران إلى العمل الدولي، وسيفرض عليها تغييرات في الداخل والخارج تقوي عزيمة تيار المعتدلين الذين سيتسلحون بما حققت سياستهم من مكاسب اقتصادية نتيجة رفع العقوبات دولياً وتعليقها أميركياً خصوصاً، بعد تجميد البرنامج النووي. وكان من ثمرة ذلك فوز الرئيس حسن روحاني بولاية ثانية على رغم كل الحملات من مناوئيه المتشددين، خصوصاً «الحرس الثوري». لكن توقعات الإدارة الأميركية السابقة لم تتحقق. وكان واضحاً أن الجمهورية الإسلامية أصرت أثناء المحادثات بينها وبين الدول الخمس الكبرى إضافة إلى ألمانيا، على حصر النقاش في البرنامج النووي من دون غيره من القضايا الأخرى المهمة التي تتعلق بسياساتها للسيطرة ومد النفوذ والهيمنة، فضلاً عن البرنامج الصاروخي. وهو ما لم يعترض عليه أوباما.

لذلك استغلت القيادة الإيرانية الاتفاق لتعزيز نهج التمدد في الشرق الأوسط، ومواصلة بناء برنامجها الصارويخ الباليستي. أفادت من ميل الرئيس أوباما إلى الطلاق مع سياسة القطب الواحد. فقد قرر التوجه نحو إشراك القوى الدولية الأخرى في إدارة شؤون العالم. وأبدى حماسة إلى خيار الحوار من أجل تسوية البرنامج النووي الإيراني. وكانت قمة الأمن النووي في واشنطن، في نيسان (ابريل) 2010 منطلقاً لهذا التوجه. لكن طهران لم تكن وحدها تترقب انكفاء الاستراتيجية الأميركية الجديدة نحو بحر الصين والمحيط الهادئ. كانت قوى أخرى على رأسها موسكو تستعد لملء الفراغ في الإقليم. وهذا ما حصل في كل من العراق وسورية واليمن أيضاً، وقبل ذلك في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم. استغل خصوم الولايات المتحدة إصرار الإدارة السابقة على طيّ صفحة الحروب التي أطلقتها إدارة بوش الابن. أُطلقت يد «الحرس الثوري» في كل مكان في المنطقة. بل رأى المتشددون في طهران إلى إصرار أوباما على إبرام تسوية نوعاً من التراجع، فصار طموحهم المزيد. هم يدركون مثلما تدرك واشنطن أن الشرق الأوسط ركن أساسي في النظام الدولي وتالياً في السلم العالمي. ويريدون حجز موقع متقدم عندما يحين موعد البحث في النظام الإقليمي في «الشرق الأوسط الكبير» وفي النظام الأمني الخليجي خصوصاً. وفي حين ألح الرئيس الأميركي السابق على إبرام تسوية للبرنامج النووي تبرد أجواء التوتر في الإقليم وتبدد غيوم الحرب. استغلت الجمهورية الإسلامية هذا البرنامج لتميكن يدها في المنطقة. فما هو أخطر من القنبلة الذرية التي يخشاها جيرانها والغرب عموماً، تلك الميليشيات التي أنشأتها لمنافسة الجيوش الرسمية في أربع عواصم عربية وللإمساك بسلطة القرار في هذه العواصم. فهي مثل غيرها تعرف أن السلاح النووي الذي لا يمكن استخدامه أو هو محرم بموجب قانون الحرب والنزاعات المسلحة لا قيمة لامتلاكه، حتى في مفهوم الردع. هذه النظرية التي يرى كثير من الباحثين أنه لم تعد لها قيمة، مع تطور أدوات الحروب الحديثة والأسلحة التقليدية.

بالطبع شكل وصول ترامب إلى البيت الأبيض انقلاباً على سياسات سلفه في الداخل والخارج. بدأ بزعزعة برنامج الرعاية الصحية (أوباما كير). ثم التخلي عن اتفاق باريس العالمي للمناخ، واعادة النظر في اتفاق التجارة الحرة مع جيرانه وفي التبادل التجاري مع الصين. لذلك تخوف كثيرون، منذ وصوله ورفعه شعار «أميركا أولاً» وحتى عشية إعلان سياسته الجديدة حيال إيران، أن يدفع بالولايات المتحدة إلى العزلة. بينما تستند الجمهورية الإسلامية إلى تمسك الدول الخمس الأخرى بالاتفاق. وتتمتع بعلاقات تحالف مع روسيا والصين أيضاً. حدد الرئيس الأميركي ما يريد بوضوح: تعديل مدة العقد حتى لا تكون متاحة لطهران مواصلة برنامجها بعد انتهاء هذه المدة، والتفاوض على برنامجها الصاروخي وتكبيل أذرعها وميليشياتها في المنطقة. سبيله إلى ذلك هو إعادة فرض عقوبات شديدة عليها وعلى «الحرس الثوري» الرافعة الأساسية لاقتصادها في الداخل ويدها العسكرية في الخارج. وتعمد في كلمته التمييز بين القيادة «الديكتاتورية» والشعب. وهو ما يبعث مخاوف هذه القيادة من عودة العمل على تغيير النظام. وهو ما دفع ويدفع التيار المعتدل برئاسة روحاني إلى الاصطفاف مجدداً إلى جانب المتشددين خلف هذه القيادة.

كان واضحاً منذ بداية هذه الحملة على إيران أن الرئيس الأميركي يريد ترجمة موقفه النابذ للاتفاق النووي. لكنه كان إلى حد ما يقلد سلفه الذي توخى تخفيف أعبائه الداخلية وصراعاته مع الكونغرس بالانصراف إلى قضايا خارجية. فهو لم يستطع حتى الآن التفاهم مع المشرعين في أي قضية فلجأ إلى الميدان الخارجي. لا يعني ذلك أنه ألقى عبء المواجهة على الكونغرس، فهو أعلن صراحة سياسته حيال إيران وما يريد من ورائها. والسؤال هو كيف سيترجم هذه السياسة وهل ينجح؟ لا شك في أن الشرق الأوسط هو الميدان الرئيسي للمواجهة المفتوحة بين الطرفين. وبالتحديد البلدان الأربعة التي تنشط فيها الآلة الإيرانية مباشرة أو عبر أذرعها المحلية. يمكن القول بداية أن قطاع غزة الذي وفرت له الجمهورية الإسلامية في السنوات العشر الماضية كل أنواع الدعم انتقل كلياً إلى أحضان مصر. وكانت هذه طويلاً ترى إلى حدودها معه حدوداً إيرانية. ولا شك في أن المصالحة بين «حماس» والسلطة الفلسطينية أعادت هذه الورقة إلى القاهرة. وبدأت وزراة الخزانة الأميركية فرض عقوبات على «حزب الله» الذي تصنفه من سنوات «تنظيماً إرهابياً».

في ظل هذه التحولات، يرتفع الحديث عن استعدادات إسرائيل لحرب على الحزب ولبنان كله، مستفيدة من الموقف الأميركي الجديد حيال الجمهورية الإسلامية ومواقف خصومها العرب الذين رحبوا بخطاب ترامب قبل يومين. فهل تقع هذه الحرب فيما طهران منشغلة وحليفها الروسي لوقف الحرب في سورية وتعزيز مواقعها فيه؟ موسكو وطهران تتهمان واشنطن بأن قواتها تتعاون مع «داعش» وتعرقل القضاء على مواقعه شرق سورية وعلى الحدود المشتركة مع العراق. وهمّ القوات الأميركية وحلفائها في المنطقة هو منع قوات النظام و «ميليشيات الحرس الثوري» من ملء الفراغ الذي سيخلفه دحر «تنظيم الدولة» نهائياً. فهل سيخوض البنتاغون معركة كبيرة لإقفال الحدود وحرمان الجمهورية الإسلامية من ممر آمن من أراضيها إلى سورية ولبنان، عبر العراق؟ إنها مواجهة لن تبقى روسيا أيضاً بعيدة منها. هي إذاً منطقة أخرى مرشحة للمواجهة. المنطقة أيضاً المرشحة للانفجار هي كردستان العراق انطلاقاً من عزم بغداد بجيشها و «حشدها الشعبي» على استعادة كركوك ومنشآتها النفطية والمعابر الحدودية من يد إربيل. فهل تسمح واشنطن لإيران المهيمنة في بغداد بأن تخوض حرباً واسعة على حليفها الكردي الذي أعلنت استعدادها للتوسط بينه وبين حكومة حيدر العبادي، وكانت ولا تزال تشجع رئيس الحكومة وبعض الرموز الشيعية على الابتعاد من طهران؟ وأخيراً هل تلقي الإدارة بثقلها خلف «عاصفة الحزم» لإنهاء الانقلاب في صنعاء، فيما بات الحوثيون وحدهم في الواجهة عسكرياً وسياسياً بعدما قيدوا قدرات حليفهم الرئيس السابق علي عبدالله صالح وقضوا على التحالف معه؟

لم يعد هناك مجال للديبلوماسية بين واشنطن وطهران. والمشهد الاستراتيجي الجيد يتبلور خلال الأيام الستين التي سيعمل الكونغرس خلالها على ترجمة سياسة ترامب ستنقضي سريعاً. بالتأكيد، لا أحد من الطرفين يرغب في مواجهة عسكرية مباشرة بينهما، سيعولان على حروبهما بالوكالة. بعضها مشتعل وبعضها الآخر قنابل موقوتة تنتظر شرارة. ووكلاء الطرفين على سلاحهم. فهل يستمع ترامب الذي قد لا يدرك ان الوقت ربما فات لاعادة تغيير الوقائع على الأرض، إلى رجاله العسكريين والديبلوماسيين المجربين وكيف سيرغم إيران على وقف سياسة التوسع؟