قُضي الأمر، وأنجِز الاتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية في إيران والدول الغربية الذي طال الحديث عنه، وتحوّلت المفاوضات الماراتونية على خطّه إلى حديث العالم بأسره. ولأنّ الاتفاق تاريخيٌ واستثنائيٌ، فإنّ كلّ فريقٍ سعى سريعًا لتوظيفه لمصلحته. الإيرانيّون اعتبروه انتصارًا محقًا، بعدما فرضوه على من ظنّ أنّه قادرٌ على إخضاعهم بالقوّة، والأميركيّون رأوا فيه إنجازاً لأنّهم قطعوا من خلاله الطريق على صنع قنبلةٍ نووية، لم تدّع إيران يومًا أنّها تسعى إليها، وهي التي لطالما حصرت برنامجها النووي بغاياتٍ سلميّةٍ.
وبعيداً عن خلفيّات وحيثيّات الاتفاق، فإنّ تداعياته السياسية والاقتصادية بدأت سريعًا تسلك طريقها التنفيذي والعملي في المنطقة ككلّ. هكذا، تحوّلت إيران لقبلةٍ للعالَم، وبدأت «أجندة» الزيارات إليها تمتلئ دفعة واحدة، في وقتٍ بدأ كثيرون حول العالم يتحسّسون رقابهم، خشية أن يؤدّي هذا الاتفاق الذي حاربوه بكلّ قوتهم إلى تهميش دورهم وصولاً حتى إلى إنهائه، ولعلّ تقاطع المواقف العلنية الصادرة عن المسؤولين الإسرائيليين وتلك الخجولة الصادرة عن المسؤولين السعوديين، ولو بلغة المصادر، يؤكّد هذا المنحى.
وعلى جري عادته، لم يكن لبنان نهائياً خارج الصورة. هكذا، انقسم اللبنانيون في قراءة الحدث التاريخي وانعكاساته المحتملة عليهم. بحفاوةٍ بالغة وغير مسبوقة، استقبلته قوى الثامن من آذار، التي فاقت بهجتها فرحة الإيرانيين أنفسهم، فيما كان «الارتباك» يسيطر على خصومها في قوى الرابع عشر من آذار، الذين كان بعضهم يمنّي النفس بأنّ هذا الاتفاق لن يبصر النور فإذا به يصبح حقيقة واقعة أمامهم، تستوجب قراءة جديدة ومغايرة لتلك السابقة والتي وصلت لحدّ رفع شعار «العداء» مع إيران بشكلٍ أو بآخر.
وإذا كان كثيرون في هذه القوى سارعوا الى تعديل «خطابهم» تجاه إيران، ومن هؤلاء أحد أبرز «صقورهم» على الإطلاق، رئيس كتلة «المستقبل» فؤاد السنيورة، الذي دافع عن حقّ كل دولة في العالم ان يكون لها نشاط نووي سلمي، وذهب الى حد الحديث عن تاريخ طويل في العلاقة بين ايران والدول العربية، بل عن جغرافيا متصلة ومصالح حقيقية يجب ان تكون مستمرة ودائمة، فإنّ «التشاؤم» بقي سيّد الموقف في مقاربة هذا الموضوع، خصوصًا في ضوء «الامتعاض» السعودي منه، وبالتالي استمرار الصراع السعودي الإيراني.
وفي هذا الإطار، توضح مصادر في هذه القوى أنّ الأساس بالنسبة للبنان هو الاتفاق الاقليمي بين العرب ولا سيما المملكة العربية السعودية وإيران، وما دام هذا الاتفاق لم ينجز، فإنّ كلّ الاحتمالات تبقى واردة والسيناريوهات مفتوحة على مصراعيها، معربة عن خشيتها من أن يؤدّي هذا الاتفاق إلى أن تنفش إيران ريشها، وتضع نفسها في مصاف الدول العُظمى والمتطوّرة القادرة على فرض شروطها وإرادتها. وتقول: «إذا كان سجلّ إيران قبل الاتفاق حافلاً بالتدخل في شؤون هذه الدولة وتلك، وفي الاستقواء على هذه الدولة وتلك، فكيف بالحريّ بعد الاتفاق الذي سيعزّز من نفوذها وقوتها».
وعلى الرغم من محاولة قوى الرابع عشر من آذار التقليل من شأن الانتصار الإيراني من خلال الحديث عن «تنازلاتٍ بالجملة» قدّمتها الجمهورية الإسلامية، فإنّ المصادر تقرّ بأنّ الاتفاق سيفرز وضعاً جديداً تستوجب مقاربته بعناية كبيرة، خصوصًا أنّ الإيراني سيكون مرتاحاً أكثر، وبالتالي فإنّ الحفاظ على حالة «الصدام» معه ستؤدي لتفوّق احتمال «الانفجار» على «الانفراج»، وعندئذ لن تكون الساحة اللبنانية بمأمنٍ عن التداعيات الكارثية التي يمكن أن تحدث.
ولعلّ أكثر ما استفزّ قوى الرابع عشر من آذار وسط هذه «المعمعة» لم يكن سوى «نشوة الانتصار» التي أصابت خصومهم في الداخل اللبناني بفعل الاتفاق النووي، وهو ما تؤكده المصادر، التي تشير إلى أنّ بعض «أبواق» قوى الثامن من آذار شعروا أنّ هذا الاتفاق سيفرش طريقهم بالورود، وسيتمكنون معه من فرض شروطهم وإملاءاتهم، بل ظنّ البعض أنه سيكون «بطاقة عبوره إلى قصر بعبدا»، والمفارقة أنّ هؤلاء أنفسهم من كانوا يردّدون ليل نهار أنّ لبنان لا يُحكَم إلا بالتوافق، وأنّ أيّ صيغة غير صيغة «لا غالب ولا مغلوب» لا يمكن أن تسري فيه بأيّ شكلٍ من الأشكال.
وفيما تؤكد المصادر أنّ ترجمة هذا الاتفاق لبنانياً غير متوقعة سواء على مستوى رئاسة الجمهورية أو أيّ مستوى آخر، خصوصاً في المدى القصير أو حتى المتوسّط، تلفت إلى أنّها أصلاً لم تراهن عليه لا سلباً ولا إيجابًا في أيّ وقتٍ من الأوقات، بعكس من عطّلوا البلد ومصالحه ومؤسساته عن بكرة أبيها، أملاً أن يفرز هذا الاتفاق واقعاً جديداً لمصلحتهم، فيمكّنهم من فرض الرئيس الذي يشاؤون، مشيرة إلى أنّ على هؤلاء أن يدركوا أنّ الإرادة الوطنية وحدها من تنتج الرئيس، وأنّ عليهم النزول إلى مجلس النواب فوراً ومن دون إبطاء وانتخاب رئيسٍ «صُنِع في لبنان»، بدل الحديث عن ضياع الحقوق وما شابه.
وفي مقابل «التشاؤم الآذاري»، فإنّ مصادر سياسية مطلعة ترى أنّ مقاربة الموضوع يجب أن تحصل من زاويةٍ أخرى، باعتبار أنّ أيّ اتفاقٍ بين أيّ قوّتين يجب أن يبعث على «التفاؤل»، وتشير إلى أنّ الاتفاق الايراني الغربي يجب أن يُنظَر إليه من زاوية أنّه ثبّت حلّ الأزمات والخلافات بقوة الحوار والتفاوض، وأبعد «شبح الحرب» عن المنطقة بشكلٍ أو بآخر، داعية اللبنانيين لأخذ العِبرة من ذلك بدل «التنمير» على بعضهم بعض، وبالتالي الجلوس على طاولةٍ واحدة من دون إبطاء لحلّ كلّ الخلافات التي يفتعلونها، وتقول: «إذا كان الإيراني وافق على الجلوس مع من كان يسمّيه الشيطان الأكبر، والأميركي وافق على الجلوس مع من كان يعتبره رأس محور الشر، وإذا كان الشيطان الأكبر ومحور الشر تمّكنا من الوصول إلى اتفاقٍ بالحدّ الأدنى، فعلى ماذا يستند بعض اللبنانيين في غرورهم الزائد ورفضهم التواضع والجلوس الى طاولةٍ واحد؟»
باختصار، تقول المصادر أنّه إذا كان الملف النووي نفسه أخضِع للنقاش، وكانت المرونة العنوان الأساسي للمفاوضات على خطه، من دون تشويهها بخطوطٍ حمراء من هنا أو هنالك، فإنّ الأكيد أنّ الخطوط الحمراء التي تحيط بالملفات اللبنانية وتعرقل كلّ الحلول يجب أن تُزال فورًا، وينصرف الأفرقاء إلى نقاشٍ بالعمق لحلحلة كلّ الثغر والخلافات، لأنّه من المعيب أن يبقوا على حالهم، فيما العالم كلّه يتقدّم وبثبات…