IMLebanon

«الإتفاق النووي» مالىء الدنيا وشاغل الناس

منذ أن وقّعت الولايات المتحدة وإيران، والدول «الملحقة» ما سميّ بالإتفاق النووي، تناثرت الآراء والتعليقات والإستنتاجات حول كثير من الأمور المرتبطة به، وتجمهرت كلها بين موقعين وموقفين شبه متناقضين يحومان حول تساؤلين اثنين، تساؤل أول: هل يقتصر الإتفاق الحاصل على وضعية السلاح النووي وضبط تفلته ورفع الحصارات المالية والإقتصادية عن إيران ويتوقف عند هذه الحدود؟ وتساؤل ثان: هو ذلك الذي يهمنا في منطقة الخليج العربي والشرق الأوسط الذين فاض عليهما دفق الهيجان الثوري الإيراني وما رافقه من مبادئ وأساليب واندفاعات تصدير الثورة الإيرانية واستنهاض الحساسيات الفئوية، وخلق المشاكل والحروب حيثما طالت اليد الثورية وأمكن الوصول الطامح والطامع، وبالتالي، يجيء التساؤل الثاني مطاولا ما نعاني منه وما نخشى من نتائجه: هل إن الإتفاق النووي الحاصل هو كل ما جرى وما تم التوقيع الطنان الرنان عليه، وبالتالي تبقى شؤون وشجون هذه المنطقة من بعده، معلقة في فضاء غامض المعالم، وافر الإحتمالات من كل الأشكال والألوان وحافل بكل صنوف المزالق والمخاطر؟ أم أن هذا الإتفاق قد واكبه على مدى سنوات من المفاوضات والملاحقات والتدارس الكثيف، جملة من الإتفاقات الإستراتيجية التي تم التوافق عليها في الغرف السرية وتحت الطاولات المشبوهة، ووضعت أساسا لحلولٍ ما، متعلقة بجملة من الإمتدادات الإقليمية، وبينها مناطق الخليج العربي والشرق الأوسط بما فيه أماكن الإختراق والضعف فيه، كما هو الحال في كل من سوريا والعراق، إضافة إلى لبنان الذي يتميز عنهما بقدر معقول من الإستقرار الأمني دون أن تكون له أية ضمانات متعلقة بغده وقضاياه ومشاكله المجمدة والمتراكمة والمتفاقمة، وفي طليعتها رئاسة الجمهورية التي ما زالت كرسيا فارغا ورئيسا مقطوع الرأس، وكما هو الحال في بلدانها المتماسكة والمحافظة على قواها الذاتية بكل مضامينها، إلاّ أنها لا تزال حتى الآن تعاني من صنوف الأخطار والتحديات، وهي إما قد دخلت في حروب فعلية وفي عملية دفاع عن النفس والوجود والمستقبل، كما هو حال المملكة العربية السعودية وحربها الحالية في اليمن، وإما أنها تعاني من تحديات الإرهاب الكامن لديها أو المدفوع باتجاهها، كما هو الحال في جمهورية مصر العربية التي تعاني من صنوف الإرهاب المضبوط بحدود معقولة حتى الآن، وإما أنها ترزح تحت أثقال أوضاع داخلية ضاغطة منعت عنها أغلبية تمثيلية واسعة كانت من خلالها تنعم بحرية تحرك وقرار مستقل ونظرة إلى آفاق المنطقة حافلة بالتطلعات المرتكزة إلى تاريخ حافل مع شعوبها، كما هو الحال في تركيا، الطامحة إلى أن تكون أحد ركائز الشرق الأوسط الجديد.

خلاصة التساؤلات والإحتمالات كلها، أن هذه المنطقة قد أضحت حبلى بالإحتمالات المتناقضة والمتناهضة، بحيث تنام شعوبها على واقع ما، لتنهض في اليوم التالي على واقع جديد ومشهد يتغير واحتمالات متعددة ومتقلبة.

ولئن كانت الساحتان الرئيسيتان المتعلقتان بمعمعة النووي وملحقاتها تتمثلان بشكل خاص، في كل من الولايات المتحدة وإيران، (دون أن ننسى بقية الدول الملحقة بهما بعد أن هجمت منذ الآن وقبل ان يجف حبر التوقيع، ساعية إلى حجز حصتها من غنيمة الوضع الإقتصادي المزدهر وفقا لما هو متوقع له في إيران)، فإن ما يتبين لنا من غموض التوقعات وتكاثر الإحتمالات كون كل منهما يتواجد على أرض مهتزة وغير ثابتة المعالم، خاصة منها ما تعلق بالمستقبل على المستويات كلها، القريب منها والبعيد.

– في الولايات المتحدة، هي تعيش حاليا أشهرا رئاسية متحولة تعّد الأشهر أمام انتخابات جديدة تنتقل البلاد بعدها من رئيس إلى رئاسة جديدة، ومن واقع معلوم يحكمه الديمقراطيون، إلى واقع متعدد الإحتمالات قد يكون الجمهوريون فيه هم الحكام الجدد، مع كل ما يتوقع من تحولات جذرية في السياسة الأميركية الداخلية والخارجية، هذا إذا سلمنا جدلاً بأن الرئيس أوباما سينجو باتفاقه سليماً معافى من الكونغرس واحتمالات غرق إتفاقيته في بحر المعارضة الجمهورية المصحوبة بمعارضة بعض الديمقراطيين.

– أما إيران، وبالرغم من النصر الهام الذي حققته دبلوماسيتها من خلال التوصل إلى توقيع الإتفاق النووي، فإن طبقات ثلاث من الإحتمالات، تسود توقعات المستقبل الممسك بالرأي والموقف والقرار الإيراني.

– طبقة الحرس الثوري الحالية، وهي الطبقة الأكثر تشددا وتصلبا ونظرة ثورية إلى القضايا والحلول والتطلعات السياسية التوسعية إلى ما بعد الحدود، وقد باتت تصريحات المسؤولين فيها تطعن وتشكك بسلامة وملاءمة الإتفاق الحاصل، منذ الآن. وهي تمثل في الواقع حالا صعبة وقاسية ستمر على إيران وعلى المنطقة، وستكون حافلة بالتوقعات السلبية والعنفية على المنطقة العربية والإسلامية عموما، وعلى الوضع الداخلي في إيران نفسها التي يعاني شعبها منذ بداية حكم الملالي من وضع إقتصادي ومعيشي وإجتماعي شديد الصعوبة.

– طبقة السياسيين الإصلاحيين الممثلين حاليا بشكل خاص بالرئيس حكيمي الذي أنجز مرحلة إنتقالية مهمة قفزت فيها إيران من وضع ديكتاتوري حاكم متنكر بالهيولات الروحية، إلى وضع يحاول إنجاز إصلاحات هامة توّجها حكيمي بما يمكن تسميته بانتصار هام لسياسته من خلال التوقيع على المعاهدة النووية، وهي طبقة مرشحة إلى تعزيز وضعها مستندة إلى نجاحاتها وإلى الآفاق المؤمّلة والإيجابية التي فتحتها أمام الإيرانيين، وبالتالي فهي ستكون على مزيد من التناقض والتناهض مع طبقة الحرس الثوري، الأمر الذي بدأت مؤشراته تبرز إلى الساحة منذ الآن.

– طبقة عامة الشعب الإيراني، وهي مشكّلة من خليط واسع من الخاضعين لضغوطات أوضاع واعتبارات صعبة. وهو خليط متأجج، عانى ويعاني من ضيق إقتصادي كاسح وفاضح، عرف فيه الجوع والعوز والخضوع إلى وضعية شظف العيش، وقد تجلّى ذلك بوجه خاص يوم توقيع الإتفاق النووي ورفع القيود عن الأموال الإيرانية المجمدة من خلال التظاهرات الشعبية العفوية التي ملأت الساحات والشوارع، ابتهاجا بايجابيات المرحلة المقبلة المتوقعة، وإن مجرد التصور الشعبي بأن عشرات المليارات من الدولارات ستعود إلى خزينة الشعب والدولة والمشاريع ودورة الحياة الإقتصادية والمعيشية، ومجرد عودة الإنتاج والحياة الطبيعية إلى بلد ضجت حياته من كل صنوف التقوقع الإقتصادي والمعاناة المعيشية، والطموحات الثورية، والإقليمية المكلفة، قد فتح أبوابا واسعة للضوء والأمل أمام ذلك الشعب الصابر والمتحفز والمتلهف للإنتقال إلى غد أفضل.

طبقات ثلاث مرشحة بحظوظ مختلفة للإمساك بخيوط الوضع الإيراني المقبل، مع ترجيح لدى كثيرين بأن الوضع الآني والمستقبلي القريب، سيحفل بالإضطراب وتناتش السلطة والصراع على المواقع والمواقف، وإن المرحلة المقبلة لن تكون سهلة على هذه المنطقة من العالم لأكثر من سبب وأكثر من غاية لدى الإيرانيين والأميركيين على حد سواء، ولكن النظرة البعيدة إلى أوضاع لا بد لها أن تستقر لاحقا، تعطي للشعب الإيراني حقه في الإستقرار والرخاء والعودة إلى أحضان المجتمع الدولي والحياة الطبيعية وسياسة التعايش والمصالح المتبادلة، دون أن نغفل من حساباتنا إمكانيات عدة متعاكسة ومتناهضة، قد تفرضها السياسات الدولية وحساباتها وأطماعها وتطلعاتها، على ضوء التناقضات الكبرى المتوقعة بين قوى عديدة بينها دول قوية لا تزال متشبثة بمواقعها التقليدية المزمنة، وقوى أخرى صاعدة بصورة صاروخية لتبوّء موقعها الواعد في خريطة الواقع الدولي بامكاناته واحتمالاته المتوقعة.