امتلاك إيران القنبلة النووية سيغير وجه المنطقة. وكذلك الاتفاق بينها وبين الدول الست الكبرى، خصوصاً الولايات المتحدة، على تجميد إنتاج هذه القنبلة سيغير وجه المنطقة أيضاً. مثلما يغيرها ويبدلها هذا الحضور الإيراني المتنامي في أكثر من موقع استراتيجي على خريطة الإقليم. هذان الاتفاق والنفوذ سيشكلان الصورة البارزة التي سيرسو عليها النظام الجديد في الشرق الأوسط. لن يكون الاتفاق الموعود المفاجأة. الصدمة ألا يبرم، وأن تفشل المحادثات طوال هذا الشهر. وأبعد من رغبة الأطراف المعنية بالمحادثات في التوصل إلى نتائج إيجابية، يبدو أن هؤلاء باتوا قاب قوسين أو أدنى من التفاهم. وزيرة الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيديريكا موغيريني قالت قبل أيام في ريغا: «إن اتفاقاً جيداً بات في متناول اليد» مع إيران. وأكدت وجوب قطع الكيلومتر الأخير. «وهي مسافة تحتاج إلى إرادة سياسية أكثر منها إلى مفاوضات تقنية» ينتظر أن يستكملها مفاوضون متخصصون لترجمة الاتفاق السياسي المتوقع قبل نهاية الشهر الجاري. ونظيرها الإيراني محمد جواد ظريف مثلها تحدث عن «تقدم حقيقي» في المفاوضات الأخيرة في سويسرا. وكان وزير الخارجية الأميركي جون كيري سبقهما إلى الرياض، في مهمة بدت كأنها سعي إلى تسويق الاتفاق المنتظر، أو التمهيد له. وبدت في جانب آخر محاولة لطمأنة المملكة ودول مجلس التعاون إلى التزام أميركا أمن الخليج، والتأكيد أن «لا مقايضة» في الملف النووي وقضايا أخرى تعني أهل المنطقة، وعلى رأسها بالطبع النفوذ الإيراني المتنامي.
تواكب أجواء المفاوضات المتفائلة باتفاق وشيك، حركة ميدانية محمومة لإيران في الإقليم، من اليمن إلى العراق وسورية. كأنها جزء من المفاوضات. أي أن المزيد الذي تجهد لكسبه في المنطقة العربية سترى إليه «مكافآت» في مقابل ما قدمت من تنازلات. وهذا ما سيعينها على تسويق ما يتم التوصل إليه مع الدول الست الكبرى، لئلا تواجه اعتراض المتشددين. ولئلا تستثير الشارع في الداخل الذي لا يقبل بالتنازل عما يعتقد بأنه حق وطني في امتلاك التكنولوجيا النووية. وثمة من يعتقد بأن التأخير في إنجاز بعض التفاصيل لإبرام الصفقة مرده تهيئة الأجواء السياسية والشعبية في كل من الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية لاستقبال الاتفاق. لذلك لا تبدو مقنعة تطمينات واشنطن لأهل الخليج وبعض العرب إلى غياب المقايضة. ثمة تعام واضح ليس عما جرى في السنوات الأخيرة، بل عما يجري حالياً في أكثر من ساحة. ويبقى العراق النموذج الفاقع. وضعت إدارة الرئيس باراك أوباما قبل شهور شروطاً على بغداد ومن خلفها طهران لإطلاق التحالف الدولي – العربي لمحاربة «الدولة الإسلامية». على رأسها إبعاد نوري المالكي وإشراك أهل المحافظات والعشائر السنية في هذه الحرب بعد إشراكهم في حكومة وحدة وطنية.
لكن ما جرى حتى الآن، وما يجري اليوم في معركة تكريت يقدم صورة مخالفة تماماً. ترك الأميركيون قيادة المعركة لمقاتلي «الحشد الشعبي»، أي الميليشيات الشيعية التي قاربت قوتها ضعفي قوة الجيش في المنطقة. وحرص الإعلام الإيراني على إبراز الدور الواضح لقوات «الحرس الثوري» وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في إدارة هذه المواجهة التي ستشكل اختباراً لمعركة تحرير الموصل المقبلة. ولا يخفي أهل السنة والأميركيون والعرب المشاركون في التحالف مخاوفهم من أن تؤدي المعركة القائمة إلى تعميق الشرخ المذهبي. كأن أميركا تكرر الخطأ الذي ارتكبته عندما احتلت العراق وأسقطت نظام صدام حسين ثم انسحبت وقواتها، مخلية الساحة للجمهورية الإسلامية. وهو ما عده كثيرون الشرارة التي أشعلت الحرب المذهبية في الإقليم كله أو زادت في سعيرها.
وما حدث ويحدث في اليمن على أيدي الحوثيين منذ أشهر شاهد آخر. لم يبدر أي تحرك غربي أو فاعل لحماية المرحلة الانتقالية. أو لتصويب أو دعم مهمة المبعوث الأممي جمال بنعمر. وما جرى ويجري في سورية منذ أربع سنوات دليل فاضح على تخلي أميركا وأوروبا عن مسؤولياتهما الدولية. أو بالأحرى دليل على إخلائهما الساحة لإيران وروسيا حيث سلما لهذين البلدين إدارة حرب طاحنة قد لا تبقي على شيء في هذا البلد. فلم يسبق في التاريخ أن أفرغ بلد أو منطقة من أهلها على نحو ما يجري في بلاد الشام عموماً، من المحافظات الشمالية والغربية للعراق إلى المدن السورية من حلب إلى دمشق!
ما يجري على الأرض في أكثر من موقع في الإقليم، أو بالأحرى في «العواصم العربية الأربع» التي تتحدث عنها طهران مناطق نفوذ، يؤكد سعي إيران الحثيث إلى استثمار نشط لهذه المرحلة التي تسبق الاتفاق النووي من أجل تثبيت مواقع نفوذها، ودفع «شركائها» الجدد في الاتفاق إلى التسليم بشرعية نفوذها في الخريطة العربية. ولا يبدو أن هذا يضير الولايات المتحدة، وإن سبب قلقاً وتوتراً في العالم العربي. فالأميركيون والعرب يعرفون أن إيران، بالمناورات العسكرية الواسعة في الخليج – وهي ليست الأولى – وما رافقها من تصريحات وتهويلات، لم تستطع إقناعهم المعنيين بأنها القوة الإقليمية الكبرى الوحيدة القادرة على فرض رغبتها وإرادتها على أهل المنطقة بسهولة. بل كشفت الحرب الباردة التي تقودها في مواجهة الخليجيين أن توسل القوة العسكرية ليس كافياً. لقد أهملت الجمهورية الإسلامية الجانب الاقتصادي، تماماً كما فعل الاتحاد السوفياتي. وهو ما عجل في سقوطه أمام مشروع رونالد ريغان في «حرب النجوم». لذلك تلقت ضربة قاسية من تدني أسعار النفط المنخفضة. ضربة تهدد أمنها الاقتصادي والاجتماعي. وتفاقم الآثار والتداعيات التي خلفتها العقوبات. على رغم ذلك لن يكون العنصر الاقتصادي سبباً في إخراج إيران في المنطقة مهما بلغت درجة استنزافها مالياً وعسكرياً. ويجب ألا يراهن خصومها على فاعلية هذا «السلاح» ونجاعته الحاسمة فقط. يجب أن يعترفوا بالحقائق المستجدة على الأرض لا الاكتفاء برفضها كأنها ليست موجودة. كما حصل في العراق الذي أهمله أهل الجامعة العربية وتركوا الأميركيين والإيرانيين يرسمون مصيره ومستقبله. وهذا ما هو قائم إلى اليوم.
هناك أسلحة أو أوراق أخرى تحوزها إيران. لعبت طويلاً بالورقة الفلسطينية. قدمت نفسها دون معظم العرب، قائدة ومحركة للصراع مع إسرائيل. وعملت ولا تزال تعمل لإقامة توازن قوة أو رعب معها عبر صناعة صاروخية متقدمة… وعلى الحدود المباشرة للدولة الإسرائيلية في لبنان وغزة. ولجأت بعد حربي أفغانستان والعراق، إلى الاستثمار في ميدان آخر أكثر ديمومة وأنجع ثماراً. هو رعاية قوى ومكونات عربية تلتقي معها مذهبياً وعقائدياً تبني عليها قواعد ثابتة في الإقليم لا يمكن هزها أو إلغاؤها. أو الطلب منها الانسحاب من أي معادلة. وهكذا يكون حضورها يحظى بشرعية هذه القوى والمكونات. من الأحزاب الشيعية في العراق وقواها وميليشياتها. إلى سورية ونظامها وعسكرها و»الجيش الشعبي» من أبناء الطائفة العلوية وبعض أبناء الأقليات. إلى لبنان و»حزب الله». إلى اليمن وحوثييه. يمكن الطلب من إيران أن تسحب قواتها المقاتلة من بعض هذه البلدان، ولكن ماذا عن هذه المكونات المحلية التي تشكل قواعد و»قنابل نووية» فاعلة وراسخة لحضور الجمهورية الإسلامية و»ثورتها» في هذه البلدان أو «العواصم» الأربع؟ بالتأكيد لا يمكن دعوتها إلى الخروج من بلدانها. هي جزء أساسي وفاعل سواء عبر الديموغرافية وغلبتها أو عبر السلاح وغلبته. والرهان على إضعاف هذه المكونات بكف المساعدة الإيرانية عنها ليس مضمون النتائج، أو يصح في كل الساحات.
كان من الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة في العقود الخمسة الماضية ألا تقوم دولة إقليمية كبرى في الشرق الأوسط الكبير يمكن أن تشكل تهديداً لمصالحها الحيوية، وعلى رأسها أمن إسرائيل، وأمن حقول الطاقة وممراتها. لكن هذا الثابت في استراتيجيتها قد ينتهي مع توقيع الاتفاق النووي مع إيران. فقد أبدت إدارة الرئيس أوباما حرصاً كبيراً على تجميد البرنامج النووي بصرف النظر عما سيخلفه التفاهم مع طهران من أضرار جانبية لكن جوهرية. أصرت ولا تزال على منعها من تطوير سلاح ذري لتفادي سباق تسلح في المنطقة. وخوفاً من وصول التكنولوجيا النووية إلى أيدي منظمات إرهابية تتناسل وتتجاوز أخطارها ما شهده العالم في 11 سبتمبر 2001. ولا يغيب عن بال الإدارة بالطبع أن استقرار الشرق الأوسط سيظل يشكل عنصراً أساسياً في النظام الأمني العالمي. ألا يكفي أن الحروب الكبرى اليوم تدور كلها على أرضه، باستثناء حربي أوكرانيا وجنوب السودان؟ من هنا تبحث الإدارة عن سبل ترسيخ هذا الاستقرار. وتأمل بأن يوقف الاتفاق الموعود سباق التسلح النووي وليس التقليدي فحسب. فليس ما يضمن عدم سعي الدول العربية القادرة وتركيا أيضاً إلى بناء ترسانة نووية، إذا قدر لإيران أن تكون لها قنبلتها. لكن وقف هذا السباق ليس رهناً بوقف البرنامج النووي. هو خطوة أولى باركتها وتباركها دول مجلس التعاون. إن مواصلة إيران انتشارها في الإقليم وترسيخ هذا الانتشار هما السبب الأكثر قلقاً لجيرانها العرب. وسيبقيان النار تحت الرماد وسيف المنازلة الكبرى مرفوعاً.