فور إعلان التوصل إلى «اتفاق نووي» لم ينتظر المجتمع الإيراني إيضاحات ولا تفسيرات، بل تظاهر احتفالاً في الإشارة الأولى إلى العالم بأن شعب إيران شعبٌ طبيعيٌ لا يختلف عن سواه. وكانت المفارقة أن مظاهر المبتهجين بالحدث لا تنمّ عن خروجهم من صفوف «الحرس الثوري» أو «الباسيج»، أو أنهم من مشايعي هذين التنظيمين، إذ هتفوا لوزير الخارجية محمد جواد ظريف الذي قاد مفاوضات يُفترض أن تقود إلى انفراج معيشي ينتظره الإيرانيون منذ أعوام طويلة، وأن يمهّد جوهرياً لعودة إيران إلى الأسرة الدولية كـ «دولة طبيعية». ودلّت التغطية الإعلامية لـ «الاحتفالات» إلى أن الشعب يريد أولاً وأخيراً «رفع العقوبات»، وأنه فهم جيداً أن «الاتفاق المبدئي» لم يظهر إلا لأن القيادة الإيرانية قدّمت التنازلات اللازمة، لكنها تفضل إبراز ما بقي من البرنامج النووي على الاعتراف بما تساقط منه خلال المفاوضات.
قد لا تكون إيران تخلّت كلّياً عن حيازة «القنبلة» إلا أنها، على رغم كل التصريحات الانتصارية المخادعة، ستجمّد سعيها إليها لمدّة عشر سنوات على الأقل، سواء بفعل الرقابة المباشرة والمشددة أو بالمناخ الجديد الذي سيفرض نفسه من خلال الانفتاح على الاستثمارات الخارجية المتأهبة لدخول إيران. أما «المكاسب» التي سُلّطت الأضواء عليها (الاحتفاظ بالبرنامج والمنشآت والتخصيب والأبحاث) فكانت كلّها متاحة منذ أعوام، لأنها تتعلّق بمعايير أي برنامج سلمي علني وشفاف يُسمح به لكل الدول الموقعة على معاهدة عدم الانتشار النووي ومنها إيران، لكن هذه فشلت في إثبات «سلمية» برنامجها، وفضّلت التعرّض لعقوبات أضرّت باقتصادها وخوض أزمات وتوتيرات دولية، ثم مفاوضات معقّدة كي تنال في النهاية ما كان متاحاً. وعلى رغم ذلك يبقى «الاتفاق» أشبه بإعلان الحمل وأُفسحت ثلاثة شهور لتكوّن الجنين (لصوغ النص) أما الولادة الرسمية فمنتظرة في نهاية الشهر الرابع، وهذه فترة قصيرة قد تشوبها عوارض وتعقيدات مفاجئة (مواقف متشددي «الشورى» الإيراني وجمهوريي الكونغرس الأميركي)، فضلاً عن تطوّرات إقليمية معاكسة.
كانت أسلحة الدمار الشامل في عراق صدّام حسين بمثابة «خيال المآته» الذي منح جورج بوش الابن تغطية لغزو العراق واحتلاله، وبات معروفاً أن حرب 2003 بدت في اليوم التالي لانتهائها كأنها صيغت قلباً وقالباً من أجل إيران، حتى لو لم يكن هذا هدفها. ومع أن البرنامج النووي الإيراني معلن منذ عهد الشاه الماضي إلا أن عهد الملالي عمد إلى تفعيله وعسكرته كأحد دروس هزيمة الحرب مع العراق، وسرعان ما أرشدته ردود الفعل السلبية (خصوصاً الأميركية والإسرائيلية) إلى إمكان استخدام «وهم القنبلة» غير الموجودة لتغطية سياسة «تصدير الثورة» وتعميمها، وكذلك لدعم ميليشيات «الثورة – المقاومة – الممانعة» ببُعد «نووي» يضاعف طاقة الشحن المذهبي في ممارسة الإرهاب والترهيب. فإذا بهذه الميليشيات هي القنبلة الحقيقية التي أفرغت تفجّراتها مدناً وبلدات من سكانها، كما حدث في هيروشيما وناغازاكي، وتمتدّ مفاعيلها بطشاً بالناس ونهباً وإحراق بيوت كما يحدث في ديالى وتكريت، وكما تخطّط لإفساد تحرير نينوى والأنبار.
هل يعني «الاتفاق النووي» انتفاء «وهم القنبلة»؟ في أي حال تستطيع إيران القول أن هذا الوهم حقق أهدافه أو معظمها، وأنها لم تعد في حاجة إليه طالما أنها لغّمت المجتمعات التي اخترقتها وغزتها بفعل عسكرة الطائفة الشيعية وتفخيخ أبنائها الذين يواصلون قطع روابط التعايش والتواؤم بينهم وبين شركائهم في أوطانهم مغلّبين تسلّح الطوائف على تقوية الدولة ومحتقرين دولة القانون لمصلحة تسيّد الميليشيات. وبالنسبة إلى طهران لم يكن لـ «القنبلة»، لو وجدت، أن تحقق لها «إمبراطورية» تطلّ على البحر المتوسط أو تقارب السيطرة على باب المندب. وما كان لها أن تُحدث هذا الدمار للبشر والحجر لإضعاف سورية والعراق، أو أن تمسك بمقادير الحكم وتكسّد الاقتصاد في لبنان، أو أن تحلم بابتلاع اليمن. ولولا ذلك «الوهم» لما قال قائد «الحرس» محمد الجعفري أن إيران «ستسيطر على الخليج وبحر عمان ومضيق هرمز» (25 – 02 – 2015) ولما قال علي الشيرازي ممثل المرشد في «فيلق القدس» أن «الجمهورية الإسلامية الإيرانية لن تسكت حتى ترفع علم الإسلام فوق البيت الأبيض» (28 – 02 – 15) ولما قال علي اليونسي (مستشار الرئيس حسن روحاني – «الإصلاحي») «أصبحنا إمبراطورية عاصمتها بغداد» (08 – 03 – 15). صحيح أن الوهم يقود إلى الغطرسة والغباء، لكنه في حال إيران تهوّر ممأسس لا ينبئ إطلاقاً بأن العالم إزاء دولة يمكن أن تكون – أو تعود «طبيعية» بعدما نشرت ميليشياتها الحقد والإرهاب في عمق مجتمعاتها، وهو ما لم يستطعه «داعش» ولن يستطيعه أي تنظيم إرهابي هامشي على شاكلته تتنافس العشائر مع الحكومات حالياً على محاربته.
فهل يؤشر ذلك كلّه إلى «دولة طبيعية»؟ في الأساس هناك منظومة تفكير أغلقت نفسها على مجموعة أحكام ثابتة ومتكلّسة، من بينها استخدام الإسلام وسيلة للتسلّط باسم الدين والسعي إلى «دولة الخلافة» بنسخة فارسية، ومن بينها أيضاً احتقار دائم لـ «ما يُسمّى المجتمع الدولي» بذريعة أنه خاضع للولايات المتحدة، أو «الشيطان الأكبر» الذي يعتبر الملالي أنه انتصر عليه بمجرد أن وافق صاغراً على التفاوض معه، وراكم الانتصارات متوقّعاً المزيد، لكنه يتبادل معه الآن تهافتاً واضحاً على التطبيع. ولن يكون هناك تطبيع فعلي إلا إذا اعترف الأميركيون بنفوذ إيراني ناجز في العراق وسورية ولبنان، الدول التي استطاع الملالي و «الحرس» عزلها عن محيطها العربي والعبث بأنظمتها السياسية وصيغ التعايش فيها. أما اليمن فمسألة أخرى، ليس فقط لأنه امتداد طبيعي وحيوي لدول الخليج بل لأنه يمسّ أمنها، وكذلك لأن لا أضرحة ومقامات ولا مصالح تاريخية لإيران فيه. فالحوثيون تمذهبوا «اثني – عشرياً» لزوم المصلحة في التموّل والتسلّح ولا يشكلون سوى ميليشيا قادرة على تنفيذ أوامر طهران ورغباتها، حتى لو وجدت حلفاء آنيين في الداخل فإنها تبقى أعجز من أن تؤسس نظاماً أو تدير دولةً واقتصاداً.
طالما أن الحجة الأكبر لباراك أوباما وإدارته وحلفائهما الغربيين في دفاعهم عن «الاتفاق النووي»، فإن التحدّي الأكبر إثبات أن إيران اللانووية، بالمعنى العسكري، لا بدّ من أن تختلف عن إيران المسلحة باحتمال الحصول على «القنبلة»، وخلاف ذلك يكون كل مغزى الأزمة وهدفها طوال اثني عشر عاماً، تمكين إيران من إقامة نفوذها وتوسيعه. لم يكن مقلقاً خلال المفاوضات أن تعاند طهران قبل التنازل، بل المقلق أن الدول الغربية اندفعت ولا تزال مندفعة إلى نسيان كل مآخذها (المبدئية والحقوق – إنسانية) على النظام الإيراني، وإلى قبول منظومة انتهاكاته الداخلية والخارجية لمجرد أنه برهن فاعليةً عسكريةً وسياسيةً. الأكثر إقلاقاً أن يُستنسخ نمط التعامل مع إسرائيل للتعامل مع إيران بعد الاتفاق، كأن تواصل مجموعة الـ5 + 1 الانسياق في ابتزازات الأجندة الإيرانية متجاهلةً أخطاءها لمصلحة «فاعليتها»، وأن تدفعها تنافساتها «البزنسية» للانزلاق إلى دعم المغامرات الإقليمية لإيران التي أسست بضع عشرات من الصراعات الأهلية التي ستبقى مشتعلة لسنوات طويلة مقبلة – وتحتاج إلى «شرطي إقليمي» – ما لم يتحمّل «المجتمع الدولي» مسؤوليته بجعل ضبط السلوك الإيراني أولوية لتوطيد الأمن والاستقرار في المنطقة.
طوال الأزمة النووية تطلعت إيران إلى التفاوض أولاً مع أميركا لبتّ الملفات العالقة بينهما، لكن خصوصاً للحصول على قبول واعتراف بالنفوذ الذي حصّلته. وفي كل مناسبة تشير إلى استعدادها للتعاون والتفاوض مع السعودية بحثاً عن حلول للأزمات الماثلة. أما الحاصل الآن فهو أن إيران بدأت تعرض التفاوض في ضوء استقوائها بالتقارب مع أميركا التي لم يُسجَّل ولا مرة أنها عارضت التدخل الإيراني في سورية ولبنان واليمن، أما في العراق فهي موافقة على صيغة لتقاسم النفوذ لمصلحة إيران. لكن السعودية لا تستطيع بأي حال اتخاذ موقف مشابه للموقف الأميركي طالما أن إيران تمضي في تخريب البيت العربي، ثم تدعو إلى التفاوض.