أظهَر الإيرانيون أنهم جديرون بالمقولة الشائعة عنهم: يصبرون في السياسة كما في الحياكة، ومستعدون للانتظار سنوات، والتقدم خطوة خطوة، كما ينتظرون سنوات لإكمال سجادة، قطبة قطبة.
لم تعد إيران ٢٠٢٢ هي نفسها إيران التي أراد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب إخضاعها بالحصار والعقوبات، عليها وعلى أجنحتها في الشرق الأوسط، وبالخروج من اتفاق فيينا ٢٠١٥. وتظهر طهران اليوم في لحظاتها الأكثر ارتياحاً، إقليمياً ودولياً.
فالتحولات التي شهدها الشرق الأوسط والعالم، في العامين الأخيرين، أتاحت لإيران أن تتملّص من ضغوط الولايات المتحدة، وجاءت الحرب في أوكرانيا لتمنحها فرصة ثمينة للانتقال من الموقع الدفاعي الضعيف إلى موقع القطب الإقليمي الذي يساوم ويفاوض الأقوياء من الند إلى الند.
وفيما جاء الرئيس جو بايدن إلى قمة جدة، مُعترفاً بموقع المملكة العربية السعودية ودورها كركيزة لا يمكن تجاوزها في أي استراتيجية شرق أوسطية، كذلك جاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى قمة طهران فاتحاً لها الأبواب للتحرر من أي ضغط غربي، فيما أدرك الشريك الآخر في القمة، الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أهمية إجراء مقايضات براغماتية مع الإيرانيين لمواجهة التحديات المقبلة، خصوصاً في سوريا والعراق.
لقد وفّر الإيرانيون لأنفسهم مقدارا واسعا من الطمأنينة على غالبية الجبهات التي يخوضون فيها غمار المواجهة:
1- مع الولايات المتحدة، يدرك الإيرانيون أن بايدن يضع منذ دخوله البيت الأبيض مسألة تعويم اتفاق ٢٠١٥ في سلّم أولوياته، لأنه يريد التفرّغ للمواجهة الأقصى مع روسيا والصين. وبالتأكيد، كان الاتفاق على وشك أن يعوّم مطلع العام الجاري، وبشروط مرضية لإيران، لكن اندلاع الحرب في أوكرانيا شكّل عامل ضغط وورقة استثمار جديدة للفريقين: واشنطن وطهران. فكلاهما يطمحان إلى الاستفادة من انشغال العالم بالحرب في أوكرانيا للحصول على مكاسب أكبر.
وهكذا، دخل الملف النووي دائرة المراوحة والجمود من جديد. ولكن، على رغم ذلك، تؤكد إيران أنها ليست مستعجلة ولن تقدم تنازلات. وهي تراهن على أن واشنطن لن تتحمل إطالة الوقت في المراوحة وسترضخ في النهاية للأمر الواقع وتوافق على تعويم الاتفاق من دون شروط إضافية.
2- فتح الإيرانيون خطوطاً واعدة مع المملكة العربية السعودية وسائر المجموعة الخليجية. وتتجه العلاقات الإيرانية – الخليجية إلى تبريد ملحوظ وانتقال من المستوى الأمني إلى المستوى السياسي.
3- لم تنجح الحرب المفتوحة التي تشنّها إسرائيل على إيران في منعها من متابعة بناء قدراتها النووية.
4- رسّخت إيران موقعاً أقوى مع الحليف الروسي، بعد فترات سادها الفتور أو سوء التفاهم.
5- عموماً، لم يضعف نفوذ إيران في الدول العربية التي تمتلك فيها غالبية القرار، أي اليمن والعراق وسوريا ولبنان، بنسَب متباينة.
وعلى الأرجح، ستستفيد طهران من الظرف الملائم لعقد صفقة مع السعودية تتعلق بالوضع الخليجي، وملف اليمن، لكن درجة الاهتمام بالساحات العربية الأخرى تتضاءل بشكل متفاوت، ومنها الساحة اللبنانية.
ويشكّك بعض المتابعين في فرص استفادة لبنان من مناخات التقارب السعودي – الإيراني المستجدة، والتي يعلّق عليها البعض آماله، لأن ملفات أخرى أكثر أهمية للطرفين ستحظى بالاهتمام والنقاش، ولا سيما الملف اليمني. وقد لا يستعجل الإيرانيون والسعوديون إبرام تسوية في لبنان، فيبقى ساحة تجاذب مفتوحة. وثمة من لا يتفاءل أيضاً باستعجال إيران عقد تسوية في ملف ترسيم الحدود، ما لم تنضج الصورة بالكامل.
ومن المفارقات أن تصل إيران إلى هذا الموقع السياسي المريح إقليمياً ودولياً في ذروة الحصار المضروب عليها وعلى حلفائها. ويقول بعض المتابعين: ربما لم ينتصر الإيرانيون في معاركهم المفتوحة، إنما خصومهم تغيّروا. فبعضهم قرّر انتهاج السلوك البراغماتي وأطلقوا العنان للحوار والمقايضات مع إيران، فيما آخرون هزموا أنفسهم بأنفسهم.