التفاوض النووي في مراحله الدقيقة .. واستراتيجية ضغط أميركية: قنبلة مقابل قنبلة
دخلت المفاوضات النووية في فيينا مراحل حاسمة، وسط إرادة مشتركة أميركية – إيرانية للتوصل الى إتفاق.
واقعاً، الأميركيون والإيرانيون على حد سواء في حاجة لإنهاء هذا المسلسل، إتكاء على مصلحة ماسّة، لا تتقاطع بالضرورة:
1-ترغب واشنطن في ترتيب مسألة الإتفاق لإقفال أحد أواخر نقاط اهتمامها المتراجع في الإقليم، آخذة في الإعتبار كذلك المصلحة الإسرائيلية وعدم رغبتها في تقويض حكم رئيس الوزراء نفتالي بينيت، إنطلاقا من أن هذا التقويض يعني حكما إعادة تعويم الآفل بنيامين نتنياهو، وهو الذي خرج كليا من حسابات إدارة الرئيس جو بايدن.
تأخير زيارة هوكستين إلى بيروت لا يعني أن الرجل ليس حاضراً في المنطقة
ترمي واشنطن من استعجال الإتفاق مع إيران، حتى لو إضطُرّت الى بعضٍ من غضّ الطرف، إلى استكمال الـpattern (بمعنى النمط) الذي خطّته لسياستها الخارجية، من الإنسحاب من أفغانستان الى الحد من إدمانها على النفط العربي (Obama doctrine)، وتصفير المشكلات الخليجية البينية، وإنهاء الحرب على اليمن، وترتيب الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل مقدمة لتكريس تطبيع إقليمي واسع بما يؤدي الى إنتفاء تلقائي لأدوار البروكسي الإيراني حيثما وُجدت الأذرع المسلّحة، وصولا في مرحلة لاحقة الى تكريس سياسة القيادة من الخلف (أيضا Obama doctrine) القائمة على تلزيم قيادة الشرق الأوسط الى كل من تركيا وإيران وإسرائيل.
في كل ذلك، تصبو واشنطن الى حصر جهدها في مواجهة الخطر الصيني والتحدّي الروسي، في سياق السباق على السيطرة على أوراسيا، ثقل الكوكب، والكتلة الجغرافية المترامية على 54.759.000 كيلومتر مربع تقطنها 5 مليارات نسمة (75% من سكان الأرض) في 92 دولة مستقلة تختزن 75% من موارد الطاقة في العالم، ووصفها زبيغنيو بريجينسكي بواحدة من أهم المفاهيم الجيوسياسية.
2-تريد طهران إستعادة أنفاسها والخروج من الحصار السياسي والإقتصادي الذي يطبق عليها منذ عقود. لذلك تصر على إجراءات تثبت حسن النيات، من تعليق العقوبات الاميركية والدولية، الى تحرير الأرصدة المليارية العالقة في أكثر من عاصمة، ورفع الحظر على الإستثمارات الدولية والتجارة البينية، إنتهاء بالحصول على ضمانة الحدّ الأدنى بألّا يقدم الكونغرس أو أي إدارة أميركية جديدة على نقض الإتفاق المحتمل، كما فعل الرئيس السابق دونالد ترامب. أما تعليق التخصيب فيصبح تحصيلا حاصلا. ويتبيّن من كل هذا العرض أن الهاجس الإقتصادي هو الدافع الأساس لطهران.
ولا يخُفى في هذا السياق أن المرحلة الراهنة تنطوي على تحديات ومخاطر جمّة. فالأميركيون والإيرانيون على حدّ سواء يعملون على تقوية أوراق التفاوض، مع ما يفترض ذلك من خطوات دراماتيكية ملحة وعاجلة. لذلك يزيد الحوثيون تهديداتهم واستهدافهم للمنشآت الخليجية في الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، فيما تلوّح واشنطن بورقة استراتيجية: إما الإتفاق، وإما منح الدول المجاورة لإيران حق التعامل بالمثل، أي ليس فقط تسهيل حصولها على السلاح الباليستي (ليس تفصيلا كشف النقاب عن البرنامج الباليستي السعودي) بل الحظي بمظلة نووية على مرحلتين: إستئجار قنبلة نووية من دولة إقليمية، الى حين التزوّد بالتكنولوجيا التي تتيح لتلك الدول المجاورة بناء قنبلة بالآليات الذاتية.
هذه الإستراتيجية الأميركية بلغت مسامع الوفد الإيراني المفاوض في جنيف، وشكّلت أحد العناصر المحفّزة لتسهيل الحوار، الى جانب ما حكي عن تواصل استثنائي وجديد من نوعه على المستوى الامني – الإستخباري، من شأنه هو الآخر أن يجيب على الأسئلة الأميركية عن مصير الاذرع المسلحة الإيرانية في المنطقة (لا التأثير السياسي الذي سيُثبَّت بمجرّد التوصل الى إتفاق وفي سياق نظرية أو عقيدة القيادة من الخلف)، ومن ثم عن برنامج الصواريخ العابرة التي تهدّد الأمن القومي الإسرائيلي.
في كل ذلك، لبنان سيكون له نصيب، لكنه على الأرجح لن يكون وافرا ووفيرا. يتأثّر حكما، سواء حصل الإتفاق أم فشل، لكنه لن يبقى على شاشة الإهتمام الأميركي، إلا من باب ترتيب الحدود البحرية مع إسرائيل والاتفاق على آلية واضحة ونهائية لاقتسام الغاز في الحقول المشتركة جنوبا عبر شركة ثالثة تُرجّح أن تكون أدنوك الإماراتية.
معنى ذلك أن لا الإنتخابات النيابية تهمّ واشنطن بالشكل الذي يهجس به أحزاب طامحة ولبنانيون مدنيون، ولا طبيعة السلطة الآتية، ولا حتى السلاح، فكيف إذا حصل الإتفاق البحري بموافقة حزب الله أو بغض الطرف حدّاً أدنى.
شهر يفصل عن المهلة الأميركية المعطاة اسرائيليا ولبنانيا لإنجاز الترتيب البحري، سيكثّف في خلالها الموفد آموس هوكستين الديبلوماسية المكوكية. وتأخير زيارته الى بيروت لا يعني أن الرجل ليس حاضرا في المنطقة. يزور تل أبيب تماما كما يحضر في أروقة الدوحة وأبو ظبي، بحثا عن أجوبة وحلول وتصوّر لإنهاء النزاع الغازي اللبناني – الإسرائيلي.
المنطقة تغلي، ولبنانيون (قاصرون وقصّار) يتلهّون بالبحث عن مقعد نيابي بالزائد!