Site icon IMLebanon

خريف لبنان … شتاء

 

 

بات جلياً انّ زيارة الرئيس الاميركي جو بايدن للمنطقة لم تحقق الأهداف التي كان يتوخاها. فحتى الفريق المحسوب عليه في الكونغرس الاميركي وصف الزيارة بالمخيبة للآمال، وأنّها أدّت إلى تنازلات بلا مقابل. «لقد أعطى أكثر مما أخذ»، هذا ما يردّده عدد من النواب الديموقراطيين، وهم يستعدون للانتخابات النصفية الصعبة بعد 4 اشهر.

والمقصود هنا محطة بايدن السعودية والنتائج المتواضعة التي انتهت اليها، وأكثر ما أثار الفريق الموالي لبايدن هو الاستقبال البارد جدا لرئيسهم على ارض المطار وحتى خلال الزيارة. وبدورها، لم تخف اسرائيل ما اعتبرته «خيبة امل» من نتائج زيارة بايدن لها، بعد الفشل في اقناع الفريق الاميركي على الأقل بتحديد موعد نهائي للمفاوضات النووية مع إيران، ورسم خط احمر لها حول مستوى التقدّم في اتجاه التخصيب.

بايدن اكتفى بتأكيد عدم السماح لايران مطلقاً بامتلاك سلاح نووي، لكن هذا الامر لا يعني بالضرورة الانزلاق في اتجاه ضربة عسكرية، بل انّه قد يعني على الأرجح سلوك درب المفاوضات ومن ثم إعلان الاتفاق.

في الواقع، فلقد مرّ نحو 7 سنوات على توقيع الاتفاق النووي ايام الرئيس الاميركي السابق باراك اوباما، قبل ان يعمد خلفه دونالد ترامب إلى الغائه ولكن بقصد تحسين شروطه، على ما كان يعتقد ويراهن.

ترامب إضافة إلى معارضي الاتفاق من اسرائيليين وعرب، سجّلوا انّ الفترة التي اعقبت إبرام الصفقة عام 2015 ازدادت الموازنة العسكرية الايرانية بنسبة 30%، وانّ هذه النسبة كانت مرشحة إلى مزيد من الارتفاع، فيما لو قُدّر لهذا الاتفاق بصيغته المعروفة ان يستمر.

لكن الشرق الاوسط تغيّر كثيراً بعد 7 سنوات. فالدول الخليجية التي كشفت رسمياً عن علاقتها باسرائيل تحت تأثير الخوف من التهديد الايراني المباشر او عبر الحلفاء كالحوثيين في اليمن و»حزب الله» في لبنان وسوريا، طالبوا وما زالوا، بوضع قيود صارمة على الدعم الايراني العسكري للقوى المتحالفة مع ايران في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة.

لذلك، عادت إدارة بايدن ورفضت إزالة العقوبات عن الحرس الثوري الايراني ومعه «فيلق القدس»، وهي الجهة التي تتولّى رعاية التواصل بكافة أشكاله مع ما اصطلح على تسميته «أذرع» ايران في المنطقة. لكن لإدارة بايدن نظرة اخرى او بالأحرى اسلوباً آخر في العمل. فهي ترى انّ حجم المشكلات التي تحاصر ايران كبيرة، وتدفع واشنطن إلى استثمارها وتوظيفها في مشاريعها السياسية، ما يعطي مردوداً اكبر بكثير من الذهاب إلى الصدام المباشر. وتعطي مثالاً على ذلك، القمة الثلاثية التي عُقدت في طهران وجاءت نتائجها سلبية للمشاركين فيها، إلى درجة انّ اوساطاً ديبلوماسية اميركية وصفت القمة بالخطوة الاضطرارية وليس بالواقع التحالفي.

فالصين قرّرت شراء مزيد من النفط الروسي في الاشهر المقبلة، وهو ما يحصل على حساب الحصة الايرانية في السوق السوداء، والتي تغض واشنطن النظر عنها. ورغم ذلك تجد طهران نفسها مضطرة إلى التعاون مع روسيا لعدم وجود خيارات بديلة، وقد يكون التعويض الروسي من خلال إقرار استثمارات في مجال تطوير صناعة النفط الايراني بزيادة تقّدر بنحو عشرة اضعاف.

وفي الوقت نفسه، بدا التباين واضحاً بين ايران وروسيا من جهة، وتركيا من جهة اخرى، في القمة، حيال نية أنقرة القيام بعملية عسكرية شمال سوريا. فإيران وكذلك روسيا، تتوجسان من طموحات اردوغان، ما يجعله شريكاً غير موثوق به، وهو الذي يُعتبر اكبر قوة عسكرية في حلف «الناتو» بعد الولايات المتحدة. والمشكلة ليست في سوريا فقط، بل في الطموح التركي الواسع في آسيا الوسطى، حيث اعلنت انقرة عن نقل الغاز من تركمانستان إلى تركيا عبر اذربيجان التي لديها مشكلات مع ايران، اضافة إلى تغلغل انقرة في كازاخستان المعادية لروسيا. لكن تركيا سعت لأن تتخذ موقفاً مدروساً في اوكرانيا، حيث لم تنضمّ الى العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، وفي الوقت نفسه شاركت في الدعم العسكري لمصلحة كييف، من خلال تزويدها طائرات من دون طيار من طراز «بيرقدار» شكّلت علامة فارقة في الحرب الدائرة. لكن في الوقت نفسه، رفضت دول آسيا الوسطى السماح لواشنطن بنشر قوات اميركية، بهدف التركيز على مواجهة التنظيمات الارهابية التي عادت لتظهر في افغانستان. فعلى الرغم من خصومته مع حركة «طالبان» استطاع تنظيم «داعش» إعادة تنظيم حضوره في افغانستان ورفع عدد المنتسبين اليه ليصل إلى حدود الـ2000 عنصر وفق التقديرات الاميركية. وتتركّز حركة «داعش» على المراكز الدينية الشيعية، وفي الوقت نفسه يعيد تنظيم «القاعدة» إعادة بناء حضوره تحت رعاية حركة «طالبان»، والعمل على استقطاب عناصر من خارج الاراضي الافغانية، تماماً كما كان يحصل ايام أُسامة بن لادن.

وتعتقد واشنطن انّ موجة الارهاب ستتصاعد مجدداً مستقبلاً لتطاول الدول المحيطة، رغم أن لا مؤشرات حول وجود تحرك وشيك. وهذا الواقع لا شك انّه يُقلق دول الجوار، ولا سيما منها ايران التي عمدت إلى وضع اتفاق مع «طالبان» لتزويد افغانستان بالنفط، وهو اسلوب ايران لاستيعاب المخاطر المستقبلية. وفي الوقت نفسه تحدثت ايران عن استمرار حوارها مع السعودية، وانّه مرشح لأن يتطور من الأمني الى السياسي وعلنياً. لكن في المقابل استمر صمت السعودية حيال مفاوضاتها مع ايران، وهو ما فسّرته اوساط اعلامية عربية بأنّه يؤشر إلى حذر سعودي بسبب تعقيدات الملف اليمني. حيث انّ اي إشادة بالحوار ستكون بمثابة القبول بالواقع اليمني. وتعتقد هذه الاوساط انّ تَعمُّد ايران الاعلان عن المفاوضات مع السعودية وإبداء مرونة ظاهرة، قد يكون هادفاً إلى تشجيع السعودية على عدم الدخول في الحلف الاقليمي الذي تسعى اليه اسرائيل ومعها واشنطن لمواجهة ايران. وثانياً للتفرّغ للاستهداف الاسرائيلي ضدّها في سوريا ولبنان. في أي حال، فإنّ مشروع تشكيل «ناتو» عربي، والذي سعى اليه الاردن، أصبح موضوعاً على الرف بسبب عدم حماسة الدول المقترحة للمشاركة فيه. وبدا انّ السعودية التي تعاطت ببرودة مع زيارة بايدن، اتجهت إلى إعطاء دور أوسع لأوروبا على حساب الولايات المتحدة الاميركية، وهو ما لا يزعج واشنطن كثيراً، ولو انّها في الوقت نفسه لا ترحّب به. فبعد الزيارة المثمرة جداً لرئيس دولة الامارات العربية المتحدة الى باريس، جاء تحرك ولي العهد السعودي في اتجاه اليونان وفرنسا، مع رزمة سخية من الاستثمارات.

وفق كل هذا المشهد لا بدّ للبنان من ان يتعاطى بحذر وقراءة متأنية. وهذا بطبيعة الحال ما تفتقده الطبقة السياسية الحاكمة اللاهثة وراء أهدافها الدائمة: مصالحها الذاتية الضيّقة.

ومن هذه الزاوية العريضة يجب قراءة مواقف الامين العام لـ»حزب الله» الاخيرة. وليد جنبلاط ربط حركة «حزب الله» حول استخراج الغاز بالنزاع الدائر بين واشنطن وموسكو. وفي الاوساط اللبنانية تفاؤل حول نتائج ايجابية للزيارة المتوقعة للوسيط الاميركي عاموس هوكشتاين، رغم التسريبات الاسرائيلية الغامضة حيال الاقتراح أن تتولّى الشركة نفسها التنقيب لدى الجانبين اللبناني والاسرائيلي، وهو تلميح مبهم، الّا اذا كان لهوكشتاين تفسير واضح لخلفياته. ويتردّد انّ تحركاً اميركياً في اتجاه لبنان سيحصل، ولكن في الخريف المقبل، وربما بعد الانتخابات النصفية الاميركية. الأرجح انّ ادارة بايدن تنتظر انتظام الامور اكثر على مستوى الشرق الاوسط، واتضاح الصورة اكثر. فلبنان جزء من لعبة المنطقة. لكن المشكلة الاساسية انّ الاشهر الاربعة المقبلة في غاية الصعوبة عليه، ومقومات صموده تضعف اكثر فأكثر، والاستحقاقات التي تنتظره كبيرة وأساسية كالاستحقاق الرئاسي والفراغ الرئاسي الذي يتوقع ان يحصل، إضافة إلى استحقاقات اقتصادية وحياتية ملحّة وفي طليعتها الكهرباء.
المشكلة انّ الملفات الاقليمية في حاجة إلى بعض الوقت، فيما لبنان لا يزال يقف على الجمر.