ى
طوال الشهور الماضية كانت هناك علاقة جدلية واضحة بين تقدّم المفاوضات نحو اتفاق وبين التطوّرات الميدانية في الصراعات على الأرض العربية، سواء بين مكوّنات اجتماعية أو ضد جماعات الإرهاب أو في حروب بالوكالة عن دول كبرى. قد يصعب إثبات الترابط في ما بينها، لكن الناظر إلى المشهد الشامل لا بدّ من أن يسجّل مثلاً أن الاتفاق الإطاري ولد بعد أسبوع على بداية عملية «عاصفة الحزم» في اليمن، وأن الاستياء الإقليمي من اللهاث الأميركي وراء إيران أعطى دفعاً للمعارضة السورية لتحقق إنجازات ضد النظام، لكن توسعات تنظيم «داعش» في الرمادي وتدمر ألقت بظلّها على تقدّم المعارضة هذا وواكبت تحديد المرشد الإيراني لـ «الخطوط الحمر» ردّاً على تعقيدات برزت في التفاوض. وشهدت الفترة الفاصلة بين جولات التفاوض الرئيسية سجالات حول مَن يتحمّل مسؤولية تصاعد الخطر «الداعشي» ومحاولات أميركية غير جدّية لتغيير طبيعة المواجهة بالاعتماد على عشائر السنّة وعدم الركون إلى الدور الإيراني من خلال ميليشيات «الحشد الشعبي».
ومع اقتراب مرحلة التفاوض وصولاً إلى اتفاق نهائي أجهض الإيرانيون مؤتمر جنيف اليمني وفرمل الأميركيون اندفاع المعارضة السورية في الشمال، وأجهضوا هجومها على درعا باختراق استخباري. وفيما دعم الأميركيون بالطيران هجوم أكراد سورية (الأوجلانيون القريبون من النظامين السوري والإيراني) على مواقع لـ «داعش» وتغاضوا عن التغيير الديموغرافي الذي باشره هؤلاء تأسيساً للكيان الكردي المتاخم للحدود التركية، تلقّى الإيرانيون الإشارة فخرجوا عن سكون استمر لأسابيع وأسروا الأمر لـ «حزب الله» ليطلق معركة القلمون إنعاشاً للنظام السوري ومن ثَمّ للهجوم على مدينة الزبداني، وانتهز الأمين العام لـ «حزب الله» مناسبة «يوم القدس» الإيراني لإعلان أن النظام السوري «يستعيد زمام المبادرة عسكرياً»، متبرّعاً بخريطة جديدة تجعل «طريق القدس يمر بالقلمون والزبداني والسويداء والحسكة». ويعني ذلك في قاموس النظام السوري و «حزب الله» أنهما في صدد الاستيلاء على الزبداني ولو ركاماً، ليس في طريقهما إلى القدس بل إلى «دولة الساحل»، أما الزجّ باسم القدس فهو من لوازم التضليل الذي تجيزه فتاوى الإتجار بـ «المقاومة».
في غضون ذلك، كانت حكومة بغداد تعلن وشوك البدء بمعركة الأنبار بعدما أحبطت كل الجهود لاستمالة العشائر وتسليح أبنائها، وبالتزامن أيضاً أسقط الحوثيون مشروع هدنة سعت إليها الأمم المتحدة وتعرّضت كالعادة لعملية خدعة حوثية أخرى. وبموازاة ذلك، كانت المفاوضات تشهد أصعب لحظاتها في فيينا، بل كان الجانب الأميركي – الغربي مربكاً، وعلى وشك أن يغادر الطاولة، إذ بدا الجانب الإيراني كأنه استعاد هو الآخر «زمام المبادرة» وراح يضغط لإنهاء التفاوض وقبول النص المتوافر للاتفاق، حتى أن المرشد علي خامنئي لم يفوّت الفرصة للدعوة إلى مواصلة القتال «ضد الغطرسة الأميركية». ومن جهة أخرى، تسلّح المفاوض الإيراني بتفاهم مع روسيا (خلال قمة أوفا الروسية لدول «بريكس») على أن تنازلاته في شأن تفتيش المواقع العسكرية هي أقصى ما يستطيعه لإنجاز اتفاق نووي ويجب أن تُكافأ برفع فوري للعقوبات بما فيها الحظر الدولي عن بيع الأسلحة إلى إيران. وقد استغلّت روسيا الخلاف على رفع هذا الحظر (وهي المستفيد الفوري منه) لتلوّح للمرّة الأولى بأن تماسك مجموعة الـ5 + 1 يمكن أن يتلاشى فتنهار المفاوضات التي راهن عليها باراك أوباما ورَهَن كل سياساته الشرق – أوسطية بإنجاحها…
لم يتوقف تبادل «الرسائل» خلال مرحلة التفاوض، والأرجح أنه سيستمرّ طالما أن أي اتفاق نووي لم يحسم بوضوح ملامح المعادلة السياسية التي ستتبلور بعده. وفي الآونة الأخيرة دأبت طهران على إطلاق الإشارات إلى استعدادها لـ «شراكة» مع دول الغرب في «محاربة التطرّف». ومن المؤكّد أن «الخطوط الحمر» تحرّكت تسهيلاً لحسم المفاوضات، حتى لو لم يعترف خامنئي بذلك، فهو يلاعب الأميركيين بأوهام من صنعه. لكن طهران طلبت ثمناً سياسياً لتنازلات وضعتها على الطاولة، وما إصرارها على رفع الحظر عن شرائها الأسلحة سوى عنوان معلن لاختبار نمط التطبيع المحتمل للعلاقات مع واشنطن. لكنه عنى أيضاً تعجّلها للظهور بـ «مشروعية» دولية وإقليمية تؤهلها لقطف الثمار السياسية للاتفاق النووي.
كان السيناتور جون ماكين أطلق أخيراً عبارة لافتة وصف فيها تصريحات أوباما عن «داعش» بأنها تكشف «مقداراً مقلقاً من خداع الذات». ولا يبدو هذا الخداع مقتصراً على محاربة «داعش»، بل إنه ينطبق أكثر على ما هو متوقع من إيران بعد الاتفاق النووي. وفي الأساس ليس معروفاً كيف يستقيم في تفكير الإدارة الأميركية الراهنة أن يكون التخلّص من خطر قنبلة ذرّية غير موجودة مدخلاً أو مبرراّ لإعادة تأهيل إيران دولياً وللسكوت على تدخلات وتهديدات فعلية وغير وهمية ضد دول الإقليم. ثم إن أحداً لا يعرف أين دُفنت كل المآخذ الأميركية والغربية على إيران، من أدائها القمعي الداخلي إلى رعايتها الإرهاب إلى تهديدها دولاً حليفة أو صديقة مزمنة للولايات المتحدة في المنطقة، وكيف استطاعت أميركا – أوباما التكيّف مع السياسة التخريبية التي انتهجتها طهران ولم تعد ترى فيها أي خطر على السلم الإقليمي. فكل ذلك يعكس وقائع بيّنة وملموسة وليست أحكاماً أيديولوجية أو مبنية على تناقضات مذهبية.
واقع الأمر أن التسويق الأميركي للمفاوضات كان يروّج لتغيير سيطرأ على طبيعة إيران وسلوكياتها، غير أن النتيجة الأكثر بروزاً هي أن المفاوضات جنحت بـ «ثقافة» الإدارة الأميركية نفسها إلى التعانق مع الخامنئية واعتناق هدف واحد: تنظيم الهيمنة على المشرق العربي. ويمكن استباق أي تطبيع أميركي – إيراني باستشراف وجهتين له: الأولى أن تقارب الطرفين يأتي على خلفية مساهمة إيران في استثمار الانقسام الفلسطيني وتعطيل الدولة في لبنان وتخريب اليمن، والأهم مشاركتها في تدمير بلدين عربيين مهمّين هما سورية والعراق، وباستثناء التحدي الذي مثّلته إيران لإسرائيل فإن أميركا لم تتضرر من سياساتها الأخرى، بل تعايشت معها إلى حدٍّ يشي بأنها كانت تحتاج إلى هذه السياسة الإيرانية تحديداً، كونها شكّلت بيئة الضياع والاضطراب الممهّدة لرسم خرائط «شرق أوسط جديد». أما الوجهة الثانية فهي أن الاحتقار المشترك للعرب سيكون القاعدة التي يُستند اليها لإيجاد تسوية للعداء المفتعل والمضَخَّم بين إيران وإسرائيل، طالما أن منطق المصالح وتقاسم النفوذ هو الذي سيحكم المنطقة العربية في المراحل المقبلة.
ليس الاتفاق النووي إيذاناً بخسارة آتية للعرب، فالخسارة أنجزت قبل زمن، وليس هناك أي تصوّر عربي للتعامل معها. والأكثر اذهالاً أن لا تكون هناك ارادة لتأسيس استراتيجية مشتركة ولو لمجرّد الحدّ من الخسائر. ففي النهاية لم يكن المشروع الصهيوني – الإسرائيلي مختلفاً عن المشروع الإيراني – الصفوي، وكلاهما نفّذ رغماً عن القوانين الدولية. أكثر من أميركا وإسرائيل، عرفت إيران كيف توظّف الانقسامات العربية، وكيف تسمّم النعرات الطائفية والمذهبية، سواء باستخدام الشيعة العرب وقوداً في حروبها أو بترهيب الأقليات واستزلام بعض منها، بل عرفت كيف تستولد «داعش» من «القاعدة»، فاستنبطت إرهاباً «سنّياً» يغطي الإرهاب «الشيعي» ويضفي عليه طابعاً أهلياً. كثيرون قالوا أن إيران حققت كل أهدافها من البرنامج النووي قبل أن تشرع في المفاوضات لرفع العقوبات وتحصين مغامراتها من أي مساءلة، وحتى لو كانت لديها قنبلة نووية وهدّدت فعلاً باستخدامها لما استطاعت أن تحدث كل هذا الخراب في محيطها العربي.