IMLebanon

النووي … يُبدِّل الدور الإيراني

شارل جبور

يجب التمييز، ومنذ اليوم، بين المواقف الرامية إلى تسجيل الإنتصارات ربطاً بتوقيع الإتفاق النووي من أجل شدّ العصب ورفع المعنويات والكسب السياسي، وبين الوقائع السياسية التي ستثبت الأشهر والسنوات المقبلة أن إيران التي عرفها العالم بعد الثورة في العام ١٩٧٩ إنتهت لمصلحة إيران جديدة.

الهدف لأي دولة تطمح إلى لعب دور إقليمي هو الإقرار بهذا الدور أولاً، وأن لا يأتي على حساب شعبها ثانياً، والبراغماتية السياسية، وتحديداً الإيرانية، تجعلها تبدّي الهدف، أي الدور، على الإعتبارات الأيديولوجية المتصلة بشعارات عفى عليها الزمن وتجاوزتها الأحداث والتطورات والوقائع من قبيل «الموت لأمريكا» والإستكبار…

والبراغماتية السياسية تتطلب إقراراً من إيران بأنها عجزت عن إنتزاع دورها الإقليمي بقوة الأمر الواقع، لأن هذا الدور لم يتحول إلى أمر واقع معترف به لا في فلسطين ولا في لبنان ولا في سوريا ولا في العراق ولا في اليمن، بل هناك نزاع شديد برهنت وقائعه عجز طهران عن حسمه لمصلحتها، الأمر الذي جعل دورها، وفق التصنيف الدولي، سلبياً وغير قابل للترجمة العملية.

وإذا كان هدف إيران من سياسة التدخل في الدول العربية، والتي اعتمدتها منذ الثورة، ونجحت في ترجمتها بشكل واسع بعد إسقاط نظامي صدام وطالبان، الإقرار بتأثيرها ونفوذها، فإن هذا الهدف قد تحقق، ولكن شتان ما بين الإقرار بنفوذها وتشريع دورها، هذا التشريع غير الممكن ما لم تتخلَّ طهران عن دورها السلبي وانتقالها إلى الدور الإيحابي، خصوصاً أن نفوذها لم ينجح بترسيخ الإستقرار، بل أدى إلى توسيع الشرخ المذهبي داخل هذه المجتمعات.

وتدرك إيران أن توقيع الإتفاق النووي لا يعني إطلاق يدها في المنطقة، بل أصبحت اليوم أمام خيارين: إما مواصلتها للنهج نفسه، ما يعرّضها لردّ فعل دولي قاسٍ على ازدواجيتها لجهة الإلتزام بالشرعية الدولية في الإتفاق النووي، وخروجها عن هذه الشرعية على مستوى دورها الإقليمي، وهذا الردّ سيكون بالتضييق عليها ودعم أخصامها كما حصل مع «عاصفة الحزم»، فضلاً عن أن ما عجزت إيران عن تحقيقه ميدانياً قبل هذا الإتفاق، لن تنجح في تحقيقه بعده ولو استخدمت كل المليارات المجمدة، لأن تحوّل الصراع إلى سني-شيعي أوجد حاجزاً مذهبياً أمام تمدّدها، وهذا الحاجز، وفق ما دلت الأحداث، في حال تقدُّم لا تراجُع. وإذا لم تعطِ إشارات تطمينية سيرتفع منسوب التطرف أضعافاً وأضعافاً وسيرتدّ عليها وعلى كل الشيعة في المنطقة سلباً.

والخيار الآخر يتمثل في تغيير طهران النهج المتبع من قبلها عبر التأسيس على واقع تحوّلها إلى دولة شريكة للغرب، خصوصاً أن المفاوضات الشاقة التي خيضت أدت إلى تعميق علاقتها مع الدول الغربية، الأمر الذي يساعدها على تعزيز دورها الإقليمي، شرط أن يكون هذا الدور تحت سقف الشرعية الدولية وباتجاه ترسيخ خيار السلام لا الحروب المتنقلة.

ومن هذا المنطلق، إمّا أن تثمِّر طهران شراكتها مع الغرب في النووي من أجل دور إقليمي بنّاء وفعّال، وإمّا أن تستمر في نزاع مفتوح ستخرج منه خاسرة أو ستحافظ بأقل تقدير على التوازن السلبي.

ولكن ما تحقق نووياً أثبت أن إيران لا تهوى الإنتحار، وأنها على استعداد للوصول إلى حافة الهاوية من أجل انتزاع أكبر قدر ممكن من المكاسب، ولكنها غير مستعدة للقفز في الهاوية، وقد دلّ أيضاً أن البعد المصلحي-الواقعي تغلّب على البعد الأيديولوجي-العقائدي، وأثبت أن علة وجودها هو دورها وحجمها وتأثيرها، وليس العداء للولايات المتحدة والغرب لمجرد العداء.

ومن نافل القول أن المنطقة دخلت مع الإتفاق النووي في مرحلة جديدة تختلف جذرياً عمّا سبقها، ويخطئ من يراهن أن هذا الإتفاق سيُمكِّن طهران من الحسم إقليمياً، فيما هذا الإتفاق سيقلّم أظافر إيران الإقليمية. فقاعدة اللا غالب واللا مغلوب التي عرفها لبنان على امتداد تاريخه الحديث ستشكل القاعدة المعمول بها في المنطقة.

فليس مسموحاً لطهران أن تهزم الرياض، والعكس صحيح، ما يعني تهيئة الولايات المتحدة لمفاوضات إقليمية شبيهة بالمفاوضات التي قادتها بين الدول العربية وإسرائيل، إنما هذه المرة بين إيران والسعودية من أجل ترتيب مواقع النفوذ في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت.

وإذا كان هذا الإتفاق سيقضي بأن يكون لإيران موقع متقدم في العراق، وأن يكون للسعودية موقع متقدم في اليمن، فإن الرياض لن تقبل بأي حلّ في سوريا على قاعدة استمرار الرئيس السوري بشار الأسد، فيما طهران لن تقبل بتسليم «حزب الله» سلاحه للدولة وتحوّله إلى حزب سياسي.

ولكن هذه المقايضة بين رأس النظام في سوريا مقابل إحتفاظ «الحزب» بسلاحه ليست واردة، لأن مشكلة الأسد أصبحت معرّبة ومدّولة ومسورنة، وبالتالي تقاسم النفوذ السعودي-الإيراني يكون على مستوى النظام من دون رأسه، وخلاف ذلك يعني التقسيم. وأما احتفاظ «الحزب» بسلاحه فلن يكون وارداً أيضاً، لأن طهران لن تستطيع الإحتفاظ بميليشياتها، بل ستحوّل نفوذها الميليشياوي إلى نفوذ من داخل المؤسسات.

وأما على مستوى الإرهاب، وفي الوقت الذي سيرفع توقيع النووي من منسوب التطرّف، فإن مواجهته مستحيلة إلّا وفق خطة مزدوجة: شراكة غربية-سعودية، وتخلّي إيران عن دورها الحالي لمصلحة الدور الذي يعيد الثقة بينها وبين السعودية والعالم الإسلامي.

وقد حوّل الصراع السعودي-الإيراني والسنّي-الشيعي إسرائيل، في العقد الأخير تحديداً، إلى دولة ثانوية، وبالتالي لا بد من أن يؤدي تقاسم النفوذ، إن حصل، إلى التضييق على تل أبيب ودفعها لتنفيذ المبادرة العربية للسلام.

وفي المحصلة، لقد دخلت المنطقة في مرحلة تاريخية جديدة، ومن الطبيعي ألّا تظهر معالمها قريباً، على غرار كل التحوّلات التاريخية، ولكنها من دون شك ستحدث مفاعيلها إنقلاباً جذرياً في المسار العام للشرق الأوسط من الحروب المستدامة إلى السلام والإستقرار.