في معرض تقييمه الأَوَّلي للقائه للمرة الأُولى بالبابا فرنسيس الذي من حُسْن ترتيب البروتوكول لهذا اللقاء مصادفة حدوثه يوم الجمعة، بدا الرئيس سعد الدين الحريري على درجة من التميز كرجل دولة يستحضر المفردات الطيِّبة في التعبير وينأى عن تلك الخشونة التي تزدهر منذ فترة في لبنان والتي يغلب فيها أسلوب التحدي، بدل التخاطب الذي من مصلحة لبنان أن يصاغ وفق المبدأ الذي يلخصه المثل الشعبي «كلمة تُحنِّن وكلمة تُجنِّن». ولنا من هذه المفردات على سبيل المثال لا الحصر عبارة «اليوم زمن عودة الحق إلى أصحابه»، قالها الرئيس ميشال عون من دون التطرق إلى مُصادِري ذلك الحق تعليقاً على حلول الذكرى السابعة والعشرين لأحداث 13 تشرين الأول 1990 ذكرى إخراج جيش الرئيس حافظ الأسد (حليف وريثه الرئيس بشَّار الأسد لاحقاً) له من القصر الجمهوري الذي إتخذ منه مقراً للحكومة الإنتقالية التي ترأسَّها رافضاً إتفاق الطائف ونقْله إلى السفارة الفرنسية ومنها إلى فرنسا التي أمضى فيها أربع عشرة سنة، وعبارة ناب عنه في قولها صهره وزير الخارجية جبران باسيل «يا أيها الآخرون إننا وطنيون وسنمنع التوطين يا موطِّنين. تعلَّموا ولا تراهنوا على صبرنا وإندفاعنا ولا على وجودنا بالسلطة لأنها لا تُتْعبنا وهي ستصبح على صورتنا. إننا كنا صورة معلَّقة على الحائط وإنتصرْنا، أما اليوم فصرنا صورة في كل دائرة وسينتصر معنا كل لبنان…».
من حق الرئيس وصهره أن يقولا على الملأ هذا الذي قالاه لو أنهما ليسا في السلطة رئيساً للجمهورية ووزيراً للخارجية، وتكون مخاطبتهما هذه لجمهور حزبهما. أما وقد بات الجنرال هو الرئيس الحادي عشر للجمهورية المغلوب على أمرها من بني قومها قبل الحاسدين لهذا الوطن أو الساطين عليه، وبات صهره رئيس الحزب وزيراً للخارجية، فإن من أصول التخاطب الأخذ في الإعتبار أن دور تيارهما في التحول الذي حدث في لبنان كان جزءاً من حراك أكثر أهمية من ذلك . وعلى هذا الأساس تصبح عبارة «اليوم زمن عودة الحق إلى أصحابه» لا تعني عودة الحق إلى لبنان كياناً وشعباً وإنما عودة الحق في أن يكون الجنرال عون رئيساً وصهره دون أي أحد آخر وزيراً للخارجية.
كما تصبح المناسبة التي أوجبت الكلام الذي قيل وأوردْنا نموذجيْن منه برسم جمهور التيار العوني وحده ولا يعني سائر اللبنانيين في شيء، وبالذات الذين خاطبهم الوزير باسيل بأسلوب المتعالي وبعبارة «يا أيها الآخرون». فضلاً عن أن للرئيس الشهيد رفيق الحريري كثير السعي في الخطوة الأُولى على طريق عودة الجنرال عون إلى لبنان، وأن للحريرية الثانية في شخص الرئيس سعد الدين الحريري السعي الحاسم في إستعادة الجنرال ما يراه حقاً إلى أن يكون هو رئيس الجمهورية وضمن صيغة إتفاق الطائف الذي سبق أن عارضه.
في المقابل كان الرئيس سعد الدين الحريري في كامل لباقة رجل الدولة وهو يتحدث عن شخص قداسة البابا فرنسيس وتستوقفه كما قال «رسالة قداسته المتمثلة بالمحبة والكاريزما التي تساعد على دفْع الناس للسير بخط السلام ولقد إستطاع أن يجمع الكثير من الناس من حوله ومن حول الفاتيكان من خلال محبته» وعن المأمول من الفاتيكان القيام به. واللافت أكثر من ذلك كلامه حول النازحين السوريين والتأكيد بأن إرغامهم على العودة إلى بلادهم «غير طبيعي وغير إنساني ولكن الأساس هو إيجاد الوسيلة المناسبىة لعودتهم إلى بلادهم» و«إن الحكومة قادرة على معالجة ملف النازحين وستضع ورقة بهذا الشأن. لكن يجب أن تكون هناك مناطق آمنة يقتنع من خلالها النازح بالعودة إلى بلاده وإلى هذه المناطق تحديداً…».
من محاسن الصدف أن زيارة الرئيس سعد الدين الحريري تمت فيما يزور الفاتيكان غبطة البطريرك بشارة الراعي الذي يختزن في وجدانه أطيب الذكريات عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري. ولا بد أن البطريرك الراعي مهَّد أمام البابا مدى إيمان الحريري الأب الذي سبق أن زار الفاتيكان بالعيش المشترك، وبذلك وجد قداسته في الثلاثين دقيقة التي خصصها للقاء الرئيس سعد الحريري أنه أمام رجل دولة يحقق ما ينشده البابا للبنان لجهة الحوار الذي يُثبِّت دعائمه ذلك العيش ويكون بذلك بمثابة مثال وقدوة في المنطقة، خصوصاً أن موضوع الهجرة المسيحية ما زال بنداً في المشهد المضطرب في بعض دولها ، ومن شأن تثبيت صيغة العيش المشترَك طي صفحة تلك الهجرة.
وفي إنتظار أن يزورنا قداسة البابا على نحو ما أفادنا بذلك كلام الرئيس الحريري نتمنى أن تنقضي التطورات على غير ما قد ينتج عن الموقف الحازم الذي إتخذه الرئيس دونالد ترامب معيداً به الوضع مع النظام الإيراني إلى مشارف الإنفجار.
وفي عِلْم الغيب ما هو برسم الحدوث. وقانا الله من مفاعيل التحديات. عسى ولعل تشكِّل الحريرية الثانية في رحاب الفاتيكان مساهمة في إحتواء ما قد يكون أكثر هولاً من الذي سبق أن أصاب لبنان.