«بلدوزر» يقضي على ما بقي من «أخضر»: جاذوب السنديان «يأكل» 1000 شجرة أسبوعياً
منذ أسابيع، تفتك حشرة جاذوب السنديان بأوراق أشجار السنديان في أحراج عدد من المناطق اللبنانية وتحيلها يباساً. آخر «هجماتها» كانت في وادي الجماجم في المتن الشمالي. صحيح أن هذه الحشرة ليست غريبة عن البلاد، إلا أن انتشارها هذا العام، ونتيجة عوامل مناخية مساعدة، كان كثيفاً. مكمن الخطر أن لا شيء يستطيع إيقاف ما يجري، لأن موسم الرش بالمبيدات انتهى. أما الخطر الأكبر فهو أن استمرار ظهورها في الأماكن نفسها لسنوات متتالية قد يقضي على ما تبقى من «أخضر» وسط كل هذا السواد
كانتشار النار في الهشيم، «نزلت» دودة جاذوب السنديان بأشجار السنديان الخضراء نزلة واحدة، ولم تتركها إلا عارية وكأن ناراً ابتلعت أوراقها. منذ أسابيع، تفتك هذه الدودة بأشجار السنديان في كثير من المناطق اللبنانية، مهددة بخسارة غطاء أخضر هو كل ما بقي في البلاد المقفرة. ومنذ بدأ الجاذوب غزوته، تعرّت أشجار كثيرة، ولا يبالغ أهالي بعض المناطق في القول إن الفارق بين اخضرار الشجرة وعريها لا يتعدى الأسبوع، ويؤكدون أن هذا «البلدوزر» يمكنه «أكل أوراق ألف شجرة في أسبوعٍ واحد»، وهذا ما حصل فعلياً. وتحذّر رئيسة مختبر الحشرات في مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية، زينات موسى، من أن أسوأ ما في هذه الدودة أنها «تأكل بشهية وبكميات كبيرة جداً رغم صغر حجمها، كما أنها تنتقل بسرعة من شجرة إلى أخرى بواسطة الخيطان الحريرية التي تتدلى بها فينقلها الهواء».
الجاذوب ليست دودة «غريبة» عن البلاد، لكن وجودها هذا العام كان مغايراً، لناحية انتشارها الكبير. فقد غزت مناطق عديدة من البقاع الشمالي إلى الغربي ومن المتن الشمالي الى الجنوب. وإذ يختلف البعض على مكان ظهورها الأول، إلا أن ثمة من يؤكد أنها بدأت من البقاع الشمالي «قبل كم شهر». كما رصد أهالي البقاع الغربي وجبال عين عطا وراشيا الفخار وحاصبيا وكسروان وجبيل والبترون ظهور هذه الحشرة بكثرة، وقبل ثلاثة أسابيع، سقط وادي الجماجم في المتن الشمالي فريسة للدودة. أما عوامل الانتشار فليست وليدة اللحظة أو العام؛ إذ سبق ظهور الجاذوب كثير من المحطات جعلت من العام الحالي الأكثر انكشافاً لهذا النوع من الحشرات. وفي هذا السياق، تتحدّث موسى عن جملة عوامل، منها اثنان أساسيان: الظروف المناخية الملائمة، وتوافر الأكل. ترجع موسى سنواتٍ إلى الوراء، وتحديداً إلى العامين 2012 – 2013، قبل أن تصل إلى مرحلة التفشي التي تحدث حالياً، مشيرة إلى أنه في تلك الفترة، حدثت تغيرات مناخية، «إذ لم نشهد شتاء قوياً في تلك الفترة، ما ساعد بعض الحشرات على استكمال دورة حياتها وولادة أجيال جديدة». واستمر المناخ على تلك الشاكلة في السنوات التي تلت حتى عام 2017، حيث سيطر الجفاف وانخفاض مستوى الأمطار، وكان ذلك كفيلاً بـ«نجاة» بيوض الحشرات من الموت في موجات الصقيع وغيرها. في عامي 2018 و2019، مرّ شتاء قوي وكمية أمطار كبيرة ساهمت في نمو الغطاء النباتي، «وبدأت الدودة تظهر حينها في منطقة عين زحلتا، وقد رفعنا تقارير حينها في هذا الشأن إلى وزارة الزراعة عنها». أما العام الماضي، فـ«ما كان عنا شتوية». ويمكن أن نضيف هنا عاملاً آخر يتعلّق بالصيد الجائر الذي قضى على أنواعٍ من الطيور تقتات تلك الحشرات، منها طائر سن المنجل، وبعض أنواع الصراصير السوداء والتي يطلق عليها اسم «كالوزما». وهذه لم تظهر هذا العام لتواكب دورة حياة هذه الدودة وتخفف من حجمها. كل تلك العوامل مجتمعة أدت إلى سرعة انتشار «الحصيدة» هذا العام. وتشير موسى إلى أن «الجيل» الذي يقتات اليوم أوراق السنديان هو من «مواليد الصيف الماضي، وفقّس على أول الربيع».
الصيد الجائر قضى على أنواعٍ من الطيور تقتات تلك الحشرات
في تلك اللحظات بالذات، لا شيء يمكن أن يواجه الجاذوب، خصوصاً أنه انتشر في الفترة التي لا علاج فيها. بحسب موسى «ما فينا نعمل شي، لأن اليرقات فاتوا بمرحلة الشرنقة، ولم يعد بالإمكان استلحاقها». ما يمكن أن يحدث الآن هو انتظار تحولها إلى فراشة كي ينتهي هذا الهلع. وبحسب مدير التنمية الريفية والثروات الطبيعية في وزارة الزراعة، الدكتور شادي مهنا، «لا تستطيع الوزارة رش المبيدات في هذه الفترة من السنة»، إذ إن موسم الرشّ ينحصر في شهري آذار ونيسان، ويكون عبر الطوافات. أما الآن، فهذا الأمر «غير وارد، خصوصاً أنه قد يقتل الحشرات المفيدة ويقضي على النحل الذي يقتات أيضاً من السنديان. وهذه أزمة كبيرة، تتهددّ التنوع البيولوجي». ويشير مهنا، في هذا السياق، إلى أن ما يجعل الأزمة كبيرة أن «أماكن ظهور الحشرة هذا العام لم نكن قد رصدناها سابقاً»، لافتاً إلى أنه خلال العام الماضي «كانت الحشرة متمركزة في منطقتي عمّيق وبعلبك، وقد عملنا على رشها بالمبيدات». أما هذا العام «إجت في الشتوية، وكانت صغيرة جداً فلم نستطع رصدها»، وفتكت بالأشجار. ويوضح مهنا أن هذه الحشرة «ترعى الأخضر، وبعد أسبوعين أو ثلاثة من الرعي تبدو الشجرة كأنها محروقة ومتيبسة». عملياً، يؤكد مهنا أن غزوة حشرة الجاذوب «لا تقتل الأشجار إذ تعيد الشجرة بناء نفسها»، لكن الخطر يحدث على المدى البعيد «إذا ما تكرر هذا الأمر على مدى ثلاث أو أربع سنوات… عندها تيبس الشجرة وتموت».
والحل؟ يشير مهنا إلى أن وزارة الزراعة رفعت كتاباً مستعجلاً إلى رئاسة مجلس الوزراء لشراء المبيدات للعام المقبل والمصائد لنصبها في المناطق التي تغزوها الحشرة في محاولة لمنع التزاوج ووضع البيض ومراقبة تكاثرها من أجل معرفة المناطق التي تنتشر بها «لنستلحقها» العام المقبل. وتوضح موسى أن هذه المصائد من شأنها أن تعطي صورة في إطار تقييم الوضع، أما التقييم التالي «فيكون في شهر آذار للتأكد مما إذا كانت البيوض ستفقس أو لا».
ما هي دودة جاذوب السنديان؟
تشير رئيسة مختبر الحشرات في مصلحة الأبحاث العلمية الزراعية زينات موسى إلى أن جاذوب السنديان يطلق عليها بالعربية اسم «الفراشة الغجرية»، وهي عادة توجد في الغابات وتقتات من أشجار السنديان والخروب والزعرور وغيرها. وتملك هذه الحشرة جيلاً واحداً خلال العام يختلف من منطقة إلى أخرى بحسب المناخ. وفي الإجمال، تضع الفراشة بيوضها صيفاً و«تفقس» خلال فصل الربيع، وتمر بخمس مراحل قبل أن تتحول إلى فراشة.