اختار الرئيس باراك أوباما، مرة أخرى، أسلوب الـ «بين بين» كي يحتفظ بخياراته مهما كانت متضاربة. بدأ عمليات التحالف ضد «داعش» بفرض الأولويات الأميركية على أقطاب التحالف مصراً على أن مشاغل هؤلاء الأقطاب يجب أن تنتظر لأن للولايات المتحدة أولويات هي القضاء على الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) والاستمرار في محاولات التفاهم والتهادن مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
الدول العربية التي شاركت في الغارات على «داعش» في سورية هذا الأسبوع لتبث إصرار باراك أوباما على أولوياته، شاركت «عملياتياً» آملة في أن تؤدي الشراكة «عملياً» إلى جر الرئيس الأميركي إلى استيعاب عنصر الطموحات الإيرانية الإقليمية في سورية والعراق – ساحة الحرب على «داعش» – ليتحداها مباشرة وبجدية. هل ستتحول تلك الآمال إلى أفول؟ الإجابة عن هذا السؤال ما زالت في كنف الغموض نظراً إلى تضارب المعلومات، وربما تضارب السياسات الأميركية وتخبطها في المفاوضات النووية مع إيران.
الواضح أن رائحة الاضطرار تنبثق من أجواء الدول العربية الخمس التي شاركت في الغارات العسكرية في سورية، والتي تربطها بالولايات المتحدة روابط أمنية ثنائية تعلو على الأولويات في العراق وسورية على السواء.
الفوائد التي وجدتها الدول الخمس – المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية، وقطر والأردن والبحرين – في انخراطها في العمليات في سورية، هي، أولاً: إثبات الجدارة في تحمل المسؤوليات المنوطة بها في التحالف ضد «داعش» أين ما كان بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر مع القيادة الأميركية لهذا التحالف.
ثانياً: إزاحة الشراكة التي سعى وراءها الرئيس السوري بشار الأسد مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب كوسيلة لإعادة تأهيله واستبدال ذلك الشريك بالدول العربية الرئيسية في التحالف ضد «داعش» أين ما كان.
ثالثاً: دخول الولايات المتحدة، أخيراً، طرفاً مباشراً في سورية في أعقاب التنصل والتردد والتراجع الذي رافق مواقف أوباما منذ تحول المسيرة السلمية للإصلاح إلى حرب مدمرة.
رابعاً: استـعـداد إدارة أوباما، أخيراً وبعد مقتل 300 ألف سوري لتقديم الدعم العملي للمعارضة المسلحة المعتدلة في سورية عبر السماح لحلفائها العرب بتوفير السلاح وعبر قيامها بالتدريب وحدها للمعونات. فهذا تحوّل نوعي من شأنه أن يغيّر الموازين العسكرية على الأرض كي يكون في الإمكان استئناف العمل على حلول سياسية.
خامساً: فتح باب على إمكانية حل «عقدة الأسد» على نسق حل عقدة نوري المالكي في العراق من خلال إزاحته عن منصب رئيس الوزراء.
سادساً: تطوير الإجراءات ضد المقاتلين الأجانب في سورية، بموجب قرار ملزم لمجلس الأمن، لتشمل «حزب الله».
ما تتسلح به الدول العربية المشاركة في التحالف هو أنها ليست قابلة للاستغناء عنها في هذا التحالف وهذه الحرب التي قال الرئيس الأميركي إنها لن تنتهي إلا بتدمير «داعش» وأمثالها مهما استغرق الأمر. فهذه الدول شريك أساسي في الحرب وهي المؤثر الرئيسي في المحارب على الأرض – أو ما يُعرف بـ boots on the ground في العراق وفي سورية. والرئيس أوباما يريد حرباً تعهد بها بلا محارب أميركي.
الأوراق في أيادي المملكة العربية السعودية بالذات ثمينة، خصوصاً في العراق حيث في وسعها – لو شاءت – أن تكون الفاعل الأهم لدى المحارب الذي لا يُستغَنى عنه في الحرب ضد «داعش» وأمثاله ألا وهو العشائر السنّية في العراق. لا تحتاج الرياض إلى واشنطن في هذا الأمر، بل إن واشنطن هي التي في أشد الحاجة للرياض التي تملك مفاتيح المحارب على الأرض.
على الساحة السورية، إن المحارب الذي لا يمكن الاستغناء عنه هو «الجيش السوري الحر» والقوى الأخرى التي تُصنّف معارضة سورية معتدلة. الدول العربية التي في وسعها مد السلاح والذخيرة والمال والمشاركة في غارات جوية – مثل دولة الإمارات العربية – غير قابلة للاستغناء عنها أميركياً.
إذاً، هذه الحرب لتي أعلنها الرئيس الأميركي من منبر الجمعية العامة للأمم المتحدة ومن قاعة مجلس الأمن الدولي لن يمكنه خوضها من دون الشركاء العرب – دولاً ومعارضة سورية. على رغم ذلك، انساق الشريك العربي الأساسي في حرب أوباما إلى أولوياته ووافق على البدء بالعمليات العسكرية بلا ضمانات مسبقة لأولوياته وهي: احتواء طموحات الهيمنة الإيرانية في سورية والعراق وإزاحة بشار الأسد عبر إقناع نظامه بسلطة حكم انتقالية تضمه والمعارضة إلى حين إجراء انتخابات. أحد الأسباب، لربما، هو الاقتناع بأن القدرات العسكرية الأميركية في سورية لن تتوقف عند موقع «داعش» ومشتقات «القاعدة» بعدما يتضح لأوباما أن النتيجة الفعلية لهذه الغارات هي تعزيز النظام في دمشق وتمكينه من دحر المعارضة المعتدلة بعد الرفض الأميركي للمعارضة الإرهابية.
هذه مغامرة يخوضها الأقطاب العرب في التحالف ضد «داعش». أما لماذا. فالإجابة تكمن في أولوياتهم أيضاً. فهم يرون أن «داعش» يهددهم مباشرة في عقر دارهم. يهدد مبدأ الدولة ويهددهم وجودياً.
إذاً، ما سيحدث في سورية هو تطوير لحرب الاستنزاف بمشاركة أميركية مباشرة وبمعونة عربية مباشرة، لذلك، ستطول الحرب السورية. وستطول أكثر فأكثر في غياب التفاهمات السياسية بالذات بين الولايات المتحدة وإيران وبين واشنطن وموسكو. سيطاول الاستنزاف «الحرس الثوري» الإيراني الفاعل جداً في سورية وكذلك «حزب الله» الذي ما زال يحارب المعارضة السورية بجميع أطيافها داخل سورية. والأرجح أن يدفع لبنان ثمناً لانتقام «داعش» من حرب أوباما عليه في سورية كما لاستمرار تورط «حزب الله» في الحرب السورية.
واختار أوباما في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة أن يذكر لبنان بجملة، وأن يتناسى اليمن كلياً، وأن يمر على ليبيا بذكرها فقط، وأن يقلّص أهمية المسألة الفلسطينية – الإسرائيلية، وأن يُحاضر في موضوع الخلاف السنّي – الشيعي مكرساً معظم خطابه له.
لم يتقدم الرئيس الأميركي باستراتيجية حرب أوباما سوى من خلال المسؤولية العربية والواجبات الإسلامية. لم يتطرق إلى دور إيران الإقليمي خارج حدودها وفي عقر الدار العربية، على رغم تسريبات أفادت بأن الولايات المتحدة مصرة على طرح الدور الإقليمي الإيراني في المفاوضات النووية تبعتها تسريبات أخرى أفادت بعدم جدية ذلك الطرح. لم يعلن موقفاً من بشار الأسد كما فعل من قبل من تلك المنصة فلم يكرر أنه افتقد الشرعية أو أن أيامه معدودة كما أعلن في الماضي. لم يذكر الدولة الفلسطينية كما فعل عندما خاطب الجمعية العامة لأول مرة بأنه نفى مركزية القضية الفلسطينية واكتفى بالقول إن الوضع الراهن في الضفة وغزة ليس قابلاً للاستمرار.
طالب باراك أوباما القيادات القاعدة الشعبية في المنطقة العربية بأن تُحدِث تغييراً جذرياً في مفاهيمها وفي مواقفها وفي تصرفاتها لكنه تناسى وتجاهل أن خلافاتها معه هو شخصياً سياسية بالدرجة الأولى.
هذا الرئيس قرر، أخيراً، الانخراط في الشرق الأوسط عبر استدراج «داعش» له للانخراط. لبى الدعوة «الداعشية» وقفز على المطالب والمآخذ السياسية من القاعدة الشعبية، فقرر إملاء أولوياته على القيادات.
باراك أوباما لم يلتقط الفرصة لإعادة صوغ تركته الشخصية ومساهمته التاريخية – أقله في خطابه أمام العالم. أعلن حرباً ناقصة على الإرهاب كما أعلن حرباً فارغة على روسيا عندما وضعها في قائمة التحديات الثلاثة الرئيسية: وباء إيبولا، ودور روسيا في أوكرانيا، وإرهاب «داعش» وأمثاله.
هذه ليست قيادة واعية. هذه سياسة رد الفعل الكلاسيكي. فليت الرئيس الأميركي ينهض قريباً إلى مستوى التحديات باستراتيجية متكاملة وليس بالتكتيكات التي ترسخه متردداً في خانة «بين بين».
بقي كلمة عن المشاركــــة العربيـة في الغارات على «داعش» في سورية. فلــيس أمـــراً عابراً أن قررت دولة الإمارات العربية أن تكلف امرأة قيادة طائرة حربية من طراز «F – 16» لتضرب «داعش» الذي يستهدف النساء في حروبه الهمجية بالاغتصاب ومختلف أنواع القمع والتحقير. فوراء هذا الخيار رسالة بالغة الأهمية.