بين الأزمات الدولية المتواصلة التي تطوق الرئيس الأميركي باراك أوباما، برزت أزمة داخلية أربكت علاقته بالكونغرس وبالحزب الجمهوري. والسبب أن رئيس مجلس النواب جون باينر وجّه دعوة إلى رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو لإلقاء خطاب أمام مجلسي الشيوخ والنواب يعرب فيه عن وجهة نظره في شأن المشروع النووي الإيراني.
وبما أن توقيت إلقاء الخطاب يصادف الثالث من الشهر المقبل – أي قبل 14 يوماً من موعد الانتخابات الإسرائيلية (17 آذار – مارس)… فقد اتهمته إدارة أوباما باستغلال المناسبة لتعزيز وضعه الانتخابي. كما اتهمه وزير الخارجية جون كيري بعرقلة الاتفاق مع طهران، الأمر الذي يمنعه من استقباله.
كذلك شن كيري حملة إعلامية ضد جون باينر لأنه تجاهل الدستور الأميركي وخالف قوانين موقعه المحدود. وقال كيري إن دستور الولايات المتحدة يضع مسؤولية رسم السياسة الخارجية في عهدة إدارة الحزب الحاكم. ومعنى هذا أن رئيس الجمهورية يبقى هو صاحب السلطة التنفيذية، والقائد العام للقوات المسلحة. عليه، يبقى هو الشخص المخوَّل بعقد المعاهدات والاتفاقات، وإجراء محادثات مع حكام العالم.
مقابل هذا التوضيح، أعلن نتانياهو عن رغبته في تلبية الدعوة بهدف «عرقلة اتفاق سيئ يتيح لإيران حيازة سلاح نووي يعرِّض وجود إسرائيل للخطر». ثم استشهد بتعليق الرئيس الإيراني حسن روحاني، وقوله إن المحادثات مع الدول الكبرى تتقدم نحو إنجاز الاتفاق.
وبناء على هذه الشهادة، توقع نتانياهو أن هذا المسار سيقود إيران إلى تحقيق قدرات نووية بموافقة دولية. ووفق تحليله، فإن نفوذ طهران سيتضاعف في المنطقة، خصوصاً أن تحدياتها الأمنية بلغت حداً لا تستطيع إسرائيل تحمله في حال ضمنت تأييد الولايات المتحدة والدول الكبرى.
الرئيس أوباما لم يخفِ امتعاضه من تصرف نتانياهو، ومن تدخل السفير الإسرائيلي في واشنطن رون درامر الذي كان وراء ترتيب الزيارة مع رئيس مجلس النواب باينر. والثابت أن الأخير تعاون في هذا الموضوع، بسبب إصراره على إهانة أوباما الذي تجاهل هزيمة الحزب الديموقراطي في الانتخابات النصفية الأخيرة، وبقي يتصرف كرئيس منتصر.
وزير الأمن الاسرائيلي السابق موشيه أرينز حذر من مضاعفات تصرف نتانياهو على العلاقات التاريخية مع الولايات المتحدة. ووصف حال التوتر التي يمر بها الفريقان بالحال التي مرت بها علاقاتهما سنة 1981، يوم غضب الرئيس رونالد ريغان من مناحيم بيغن لأنه قرر ضرب المفاعل النووي العراقي من دون إبلاغه. واعتبر أرينز أن الموقف الذي اتخذه رئيس الحكومة هو وليد خلافات متواصلة بين دولة صغيرة مزروعة وسط عالم يكرهها… ودولة كبرى ترى في إسرائيل ذخراً استراتيجياً يملك مئتي رأس نووي.
وتشير خلفية العلاقة بين إسرائيل والولايات المتحدة إلى تاريخ متدرج من حالات الكرّ والفرّ، بلغ ذروته في عهد الرئيس جون كينيدي. والصدام السياسي الأول بين الرئيس دوايت آيزنهاور وديفيد بن غوريون حدث عقب الاعتداء الثلاثي سنة 1956، واحتلال القوات الإسرائيلية صحراء سيناء.
ومع أن القوات البريطانية والفرنسية تجاوبت مع قرار الأمم المتحدة بضرورة الانسحاب من الأراضي المصرية المحتلة، إلا أن بن غوريون رفض التقيّد بالقرار. وادّعى في تبرير ذلك بالقول إن النبي موسى وهب الشعب اليهودي هذه الصحراء التي تشكل امتداداً لإسرائيل الكبرى. وطلب منه آيزنهاور، بواسطة وزير خارجيته فوستر داللس، الانصياع لقرار الأمم المتحدة، حفاظاً على سلامة الأمن الدولي، واحتراماً لإرادة المنظمة العالمية. وقابل بن غوريون طلب داللس بالرفض مرة أخرى، الأمر الذي دفع آيزنهاور إلى التهديد بقطع المعونات الاقتصادية والمساعدات العسكرية.
ومنعاً لتنفيذ تلك التهديدات، أعلنت وزيرة الخارجية غولدا مائير بداية انسحاب القوات الإسرائيلية في 16 آذار من تلك السنة. لكن حكومة بن غوريون لم تطمئن إلى الموقف الأميركي الذي رأت فيه مقدمة خطرة لتكرار ضغوط أخرى في المستقبل من شأنها عرقلة التوسع الإسرائيلي. لذلك اتخذت قراراً بضرورة «الاستيلاء» على الغالبية النافذة في الكونغرس. ومن طريق الانتخابات، استطاعت إدخال شيوخ يدينون بالولاء لإسرائيل. والغاية من كل هذا، موازنة سلطة البيت الأبيض بسلطة أخرى يمارسها الكونغرس، تكون قادرة على شلّ نفوذ الرئيس. واستغرقت هذه العملية مدة طويلة، عرقل اضطرادها الخلاف الذي حصل بين الرئيس كينيدي وبن غوريون.
وتقول المعلومات الموثقة أن الاستخبارات الأميركية قدمت تقريراً للرئيس كينيدي تؤكد فيه سرعة التقدم الذي أحرزته إسرائيل في مفاعل «ديمونا»، حيث شارك خبراء فرنسيون في إنتاج قنبلة ذرية. وبما أن الرئيس الأميركي كان حريصاً على إبعاد منطقة الشرق الأوسط عن النادي النووي، لذلك استدعى ديفيد بن غوريون إلى واشنطن ليبلغه خطورة الإقدام على تلك المغامرة. وبعد نقاش طويل حول أمن إسرائيل، لم يقبل الرئيس بأقل من وقف المشروع فوراً.
ويروي أحد مرافقي بن غوريون في مذكراته أنه سمع رئيس الوزراء يتمتم لدى انصرافه بعبارة غاضبة مفادها: من الصعب لنا أن نقبل برئيس كاثوليكي في البيت الأبيض! وكانت النتيجة أن غادر الرئيس الكاثوليكي البيت الأبيض إلى القبر، الأمر الذي ضمن لإسرائيل حيازة السلاح النووي.
وبفضل الخدمات التي قدمها الرئيس ليندون جونسون في حرب 1967، ضاعفت إسرائيل حجم نفوذها في البيت الأبيض… وفي الكونغرس أيضاً. وفي حرب 1973، استغل وزير الخارجية الأميركي الصهيوني هنري كيسنجر موقعه ليقوي علاقات التعاون بين واشنطن وتل أبيب. ومثل هذا الدور أكملته وزيرة الخارجية مادلين أولبرايت، الأمر الذي وسَّع أطر العلاقات بين الدولتين على مختلف الأصعدة.
في رده على منتقدي قبوله مخاطبة شيوخ الكونغرس، قال نتانياهو أنه لا يعتبر ذلك عملاً استفزازياً للرئيس أوباما، كون الخطاب سيركز على أمن إسرائيل وسلامة شعبها. وقال أيضاً أنه أمضى وقتاً طويلاً في الولايات المتحدة، الأمر الذي وفّر له فرص التحدث إلى الشعب من فوق منبر «إيباك» – أي اللوبي الأميركي – اليهودي. كما وفر له مصادر المعلومات لتأليف كتابين عن كيفية مقاومة الإرهاب. وقد أهداهما إلى روح شقيقه الأكبر جوناثان الذي قتِل في عنتيبي أثناء عملية تحرير الرهائن. و»الإرهاب» الذي عناه حينذاك كان محصوراً بأعمال منظمة التحرير الفلسطينية.
على صعيد آخر، استغرب نتانياهو الضجة الإعلامية التي أثارها البيت الأبيض حول ظهوره في قاعة الكونغرس كشخص غريب يخاطب كتلة غريبة. وادّعى أن الحضور اليهودي المميز ظهر في الولايات المتحدة قبل ولادة أوباما بمئات السنوات. وكان بهذا الكلام يشير إلى شاعرة أميركا الأولى إيما لازاروس (1849 – 1887) وإلى القصائد التي كتبتها ضد قيصر روسيا الذي طرد عدداً كبيراً من اليهود لأنهم رفضوا اعتناق الأرثوذكسية.
وعندما أهدت الجمهورية الفرنسية تمثال الحرية الذي أقيم على مدخل مرفأ نيويورك كمركز لحب الديموقراطية في البلدين، اختارت الإدارة الأميركية إحدى قصائد «إيما» لتحفرها على قاعدة التمثال، ومطلعها:
صرخت بشفتين صامتتين
تعالوا إليّ أيها الفقراء،
لأن جموعكم المنهكة
تحنّ إلى نسمة الحرية.
أرسلوا إليّ اللاجئين والمشردين
الذين فقدوا أوطانهم،
فأنا أرفع شعلة الحرية
قرب الباب الذهبي
المهم من كل هذا أن نتانياهو يسعى إلى تحدي الرئيس أوباما لاقتناعه بأنه يفضل التعاون مع منافسه إسحق هرتسوغ الطامح إلى إنتزاع رئاسة الحكومة منه. وكان هرتسوغ التقى نائب الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية جون كيري، على هامش مؤتمر أوروبا للأمن. وأطلعهما على برنامجه الانتخابي الذي يدعو فيه إلى استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين على أساس حل دولتين لشعبين.
يؤكد نتانياهو في أحاديثه للصحف أن الإدارة الأميركية هي التي تغذي خصومه السياسيين بالمعلومات المسيئة لسيرته وسيرة زوجته سارة. وفي الأسبوع الماضي تبادل الإسرائيليون حكايات البخل الذي تتميز به سارة، خصوصاً عندما تطلب من سائقها جمع الزجاجات الفارغة بغرض بيعها والاحتفاط بثمنها. وبين هذه الحكايات ما تجمعه سارة من مقر مجلس الوزراء في القدس. وكلها بقايا مأكولات ومواد تنظيف، لا تستحق أن تنقل من مكان إلى مكان آخر.
وتتساءل «معاريف» في افتتاحيتها: إلى أي حد يؤثر هذا الجنون في وظيفة الزوج الذي يتولى شؤون الشعب الإسرائيلي؟
والمؤسف أيضاً، أن ينشغل موظفو البيت الأبيض، خلال السنة والنصف المتبقية من عمر ولاية أوباما، بأمور تافهة صارت تشكل هماً إضافياً للشعوب المذعورة من حرائق «داعش» وسكاكينه الحادة!