التوتّر الأخير الذي دفع الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى إخراج الجمهوريّ الوحيد في إدارته تشاك هيغل من منصبه كوزير للدفاع، هو مؤشّر على التخبّط الذي تعيشه هذه الإدارة بعد شهور على إطلاقها الحرب اللابرّية ضد تنظيم «الدولة الاسلامية» بلا طائل واضح حتى الآن، في الوقت نفسه الذي ترغمها فيه الوقائع على تأويل واعادة تأويل جداول الانسحاب من افغانستان بحيث تفرغها من مضمونها، لأنّ ما يخيّم على هذا الملف الآن هو اعادة حركة طالبان الوضع على ما كان قبل التدخل الاميركي الاطلسي ضدها في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول.
في الواقع، ثمة ثلاثة أطراف وراء هذا التوتر. الرئيس، ووزير دفاعه، ووزارة دفاعه. اذ لم يستطع هيغل الجمهوريّ أن يروّض احتقان البنتاغون من سياسات اوباما، لا سيما في موضوع الانسحاب من افغانستان، كما انه في المقلب الآخر، لم يقتنع بكل هذه الحرب اللابرّية ومنطق خوضها. فهذا المحارب القديم في فيتنام يعرف واحدة من اثنتين: إما عدم التورّط في النزاعات، وانما خوضها في البرّ والبحر والجو في الوقت نفسه. اما الدخول في نزاع حربي، مع ابقائه لابرّياً، فذلك هو مسلك اوباما، وهو يعتقد أنّ ما جرّب في ليبيا لمساعدة المنتفضين فيها على إسقاط معمر القذافي، يمكن استلهامه ضد «داعش» دون أن يطرح حتى السؤال عن الذين يمكنهم ان يتوازوا برّياً مع الهجمات الجوية.
بتواري هيغل عن الصورة، سيكون اوباما وجهاً لوجه مع بنتاغون غير مطواع، ومع حزب جمهوريّ سيستثمر ليس فقط في تعثرات اوباما العالمية، انما في تفكك التحالف الانتخابي الداخلي الذي اوصله رئيساً واعاد التجديد له.
لا يمكن تحطيم «داعش» بالحرب اللابرّية. ليس ثمة شريك مناسب في الشرق الأدنى يقارن بـ»تحالف الشمال» في حرب افغانستان او بالمعارضة المسلحة في حال ليبيا. ثمة تخمة من الاعداء لـ»داعش» لكن كثرتهم تحول دون وجود شريك حيوي ميداني للحرب اللابرّية الأميركية. وهذه اللوحة يزيدها تعقيداً، بل انكماشاً، تعايش الأمر الواقع للسياسة الأميركية مع استمرار النظام البعثي في سوريا. صحيح ان وزير الخارجية جون كيري كان له كلام واقعي مؤخراً عن تواطؤ موضوعي بين «داعش« والنظام البعثي، لكن منطق الحرب اللابرية على «داعش« في مقابل التشدد الكلامي ضد النظام البعثي، هو منطق لم تتبين فعاليته حتى الآن في جعل «داعش» يجلو من بقعة واحدة.
منذ «عاصفة الصحراء» خاض رؤساء أميركا ثلاثة انماط من الحروب. حروب التدمير في البنى التحتية، سواء في العراق أو في يوغوسلافيا. ثم حروب «احتلال تحريري» بعد هجمات ايلول في افغانستان والعراق. ونحن اليوم نكابد النمط الثالث، الاوبامي. هذا النمط يجمع بين الدافع الى خوض الحروب وبين الدافع الى الإحجام عن خوضها. مهموم هو بخوضها من دون كلفة. لكن حرباً يعتزم خوضها من دون كلفة وتضحيات ليست حرباً. واذا كان هيغل غير مقتنع بالحرب على «داعش» فليس لأنه داعية سلام عالمي بل لأنها ليست حرباً.