واحد من أبرز الأعمدة التي يقوم فوقها وعليها بنيان الأداء الأوبامي إزاء النكبة السورية، هو ذلك المغروس في وحل الفكرة القائلة بأن انهيار ما تبقى من سلطة أسدية سيحيل سوريا إلى أشياء كثيرة منها أو أبرزها توسّع دوائر سيطرة الإرهاب.. ثم «انفلات» الوضع وذهابه باتجاه «الصوملة»، التي لا تزال تعتبر القياس «العلمي» المعتمد للفوضى الدموية القصوى، متقدّمة في ذلك وبأشواط عن «العرقنة»، كما عن «اللبننة» السبّاقة في التاريخ والسياقات!
وتلك أعمدة من ملح تحمل بنياناً من رمل!
كأن سوريا منذ سنوات خمس ليست تلخيصاً مكثفاً لكل المصطلحات الدالة على الخراب العميم! وكأن الدولة لم تسقط في معظم مؤسساتها! وكأن «الإرهاب» لم يكن حصيلة ذلك السقوط أو «البديل» عنه! وكأنه هذا «الإرهاب» المدّعى ليس في أساسه نقطة التقاطع الفعلية لمصالح متنافرة، من إيران والجماعة الأسدية وفوقهم الروس، إلى الإدارة الأوبامية تحديداً وهي التي وجدت في «داعش» (أكثر من غيره!) أفضل شمّاعة ممكنة لحمل أغراض كثيرة، منها تبرير النكوص المخزي عن التدخل المناسب في الوقت المناسب بالطريقة المناسبة لتدارك كارثة نكبوية لا مثيل لها منذ الحرب العالمية الثانية! ومنها تغذية السم الذهني الذي يقول بأن الإسلام الأكثري موبوء بالفطرة والنصّ والفتوى والأداء بلوثة الإرهاب! ومنها، في المحصّلة الأخيرة، جعل سوريا مسرحاً نادراً لتهتّك كل القيم المعروفة عن العرب والمسلمين سواء بسواء، بدءاً من انعدام الأنسنة في المعارك الدائرة! مروراً باستعار فتنة داخلية بقيت غافية على مدى 14 قرناً وأكثر! وصولاً إلى تحطيم كل بنيان تنظيمي أو نظري أو تعبوي مضاد لإسرائيل!
والخارطة التي وجدها أوباما أمامه كانت (ولا تزال) أكبر من كل «طموحاته» الفكرية.. هذه واحدة من أبرز علامات «نجاح» استراتيجيته الفكرية! التي تفترض أن الحروب (الأميركية) الكبرى يمكن أن تُربح بالواسطة، ومن دون أي خسائر تُذكر! لا حاجة كما فعل بوش الابن، لإرسال الجيوش والتورط في معارك استنزاف لا قعر لها، بشرياً (عسكرياً) ومادياً. ولا ضرورة للتورط في جهود لا سقف لها لمحاولة تقريب الناس بعضهم إلى بعض وهم المفطورون على الفرقة والتنابذ! أو إنضاج حل أخير للقضية الفلسطينية! أو دفع الإسرائيليين إلى التسليم بتسوية (نسبية) معقولة! كما لا حاجة لبذل أي جهد (أياً يكن!) لتحطيم وتشويه أي احتمال لتبلور بديل يؤسس لفكرة «المقاومة».. حتى لو كانت واحدة من أدوات الضغط لدفع الإسرائيلي خطوة إضافية باتجاه الاقتناع بأن التسوية السلمية هي التي تأتي بالأمن وليس العسكرة المستدامة ولا الحروب الاستباقية ولا استراتيجيات تفتيت المنطقة المحيطة!
أليست سوريا اليوم هي التعبير الأمثل عن تحقّق ذلك كله، وأكثر منه، من دون أي أكلاف أميركية أو إسرائيلية؟! وأليست سوريا هي الفخ المثالي الذي وقعت فيه إيران وحطّمت من جملة ما حطّمته، كل ادعاءاتها ومزايداتها في دنيا العرب والمسلمين؟ وذهبت إلى المفاوضات النووية، على وقع عاملين كبيرين، الأول العقوبات المباشرة، والثاني الاستنزاف الدموي لها ولأتباعها في الميدان السوري؟ ثم أليست سوريا هي المكان الأمثل لتنفيس الجموح الاحيائي لفلاديمير بوتين ونقل مركز الثقل فيه، من جواره المباشر والأوروبي إلى الضفة الميتة من حوض المتوسط؟
في سياقات هذه اللوحة، يُصار إلى تضخيم العامل الإرهابي أكثر بكثير من واقعه ووقائعه. ومثله إلى حد ما، قضية النزوح الأكبر من نوعها منذ الحرب العالمية الثانية. بحيث يُراد، لكل من عليها، أن يصدّق ويقتنع بأن ضحايا «داعش» في أوروبا وعددهم بالعشرات هم «قضية» أهم وأكبر من ضحايا ارتكابات المحور الإيراني الأسدي الروسي من السوريين وعددهم بمئات الآلاف.. بل بالملايين! مثلما يُراد لكل من عليها أن يصدّق ويقتنع بأن بلداً مثل لبنان يستطيع أن يتحمّل أعباء استضافة نحو مليوني سوري نازح مع أن عدد سكانه لا يتجاوز الأربعة ملايين، في حين أن 500 مليون أوروبي غير قادرين على تحمّل عبء استضافة أقل من مليون نازح سوري!
وفي سياقات هذه اللوحة أيضاً، مدوّنات دجل ولا أوقح: المذبحة دائرة في سوريا ومنذ أكثر من خمس سنوات. والارتكابات المسجّلة فيها عصية على الحصر. والجرائم اللاحقة بالمدنيين، بالناس العاديين، بالأطفال، بالنساء، بالمؤسسات الخدماتية، بالاستخدام الممنهج لكل سلاح فتّاك، بروايات التعذيب في سجون الطاغية الأسد، بصور الضحايا الذين ماتوا في سجونه نتيجة تلك الفظاعات الحيوانية، بقوافل النازحين والمهجرين الذين ما بقي لديهم شيء سوى صرّة الثياب فوق الرؤوس.. في مقابل ذلك كله، يندر، والتكرار واجب: يندر، إزاء ذلك كله، أن تُسمع في هذه الأيام أو أن يُقرأ في صحيفة غربية مقال يحترم او مقولة تحترم سلّم القيم الذي تعتمده الدول المتحضّرة والأنظمة الديموقراطية غرباً وشرقاً!
لكن في موازاة ذلك، يندر، والتكرار واجب: يندر أن تخلو صحيفة واحدة أو منتدى سياسي، أو كيان نظامي دستوري أو مدني، أكان في وزارات الخارجية أو البرلمانات، أو رئاسات الدول والحكومات، أو منظمات «حقوق الإنسان» في أوروبا والولايات المتحدة.. من تصريح أو مقال أو بيان أو موعظة تطال، بالنقد الجارح، أداء الرئيس التركي رجب طيب إردوغان و»تطاوله» على الحريات! ومسّه بأسس الحقوق المدنية! و»تعطّشه» لتجاوز دولة القانون!!
هذا عالم محكوم بمناخات أداء إدارة مستر أوباما. وفيه يُراد لنا أن نصدّق أن «داعش» هو قضيته الأولى والوحيدة! وأن «ممارسات» إردوغان هي «قضيته» الثانية! وأن شعب سوريا، فائض لا مكان له سوى المنفى أو القبر! ثم يُراد لكل من عليها أن يصدق، أن السكوت عن جرائم الأسد مردّه إلى «الخشية» من «صوملة» سوريا أو «عرقنتها»؟!!