IMLebanon

أوباما يوظف الجالية اللاتينية للعبور إلى كوبا

بعد الفشل الذريع الذي مُني به الرئيس الأميركي باراك أوباما في انتخابات نصف الولاية للكونغرس، قرر تعويم الحزب الديموقراطي بالانحياز السافر نحو الجالية اللاتينية التي تمثل ما نسبته عشرون في المئة (54 مليوناً) من الشعب الأميركي (324 مليوناً). وهي نسبة تزداد سنة بعد سنة، بحيث وصلت السنة الماضية حداً تخطت فيه أعداد المواطنين البيض في كاليفورنيا وفلوريدا.

ومن أبرز مظاهر ذلك الانحياز منح حق المواطنة لخمسة ملايين لاتيني كانوا قد تسللوا للعمل في الولايات المتحدة من دون أذونات رسمية بالدخول. أما المظهر الآخر للانحياز نحو هذه الجالية فقد تجلى بإلغاء قانون مقاطعة كوبا الذي طُبِّق عام 1960. أي بعد انتصار ثورة فيديل كاسترو التي رأى فيها الرئيس جون كينيدي تهديداً استراتيجياً خطيراً.

والثابت أن هناك عوامل خارجية ساعدت أوباما على اتخاذ هذه الخطوة الجريئة. وكان البابا فرنسيس قد لعب دوراً أساسياً في سياسة التحول والتقارب بين واشنطن وهافانا. وذكِرَ في الفاتيكان أن البابا بنديكتوس السادس عشر هو الذي شجعه على استكمال المهمة التي بدأها مع كاسترو أثناء زيارته لبلدان أميركا اللاتينية. وذكرت الصحف، في حينه، أن البابا السابق هاجم الحظر التجاري الأميركي الذي يضع عبئاً إضافياً على الشعب الكوبي.

ويبدو أن ذلك الانتقاد أغبط الزعيم كاسترو بدليل أنه غادر المستشفى، وتوجه إلى سفارة الفاتيكان حيث التقى البابا بنديكتوس السادس عشر، وحاوره لمدة تزيد على نصف ساعة. وعُلِم أن حديثهما تميز بالصراحة، وأن البابا طلب من كاسترو، ومن شقيقه راؤول، بناء مجتمع أكثر انفتاحاً وأقل خضوعاً للنظام الشيوعي الجامد.

العامل الآخر الذي ساهم في تسريع عملية الانفتاح الأميركي على كوبا كان عاملاً خارجياً تمثل بتراجع أسعار النفط. وتقول صحيفة «لوموند» إن مفتاح تحول هافانا حيال واشنطن موجود في كراكاس. والسبب أن كاسترو اضطر للاعتماد على نفط فنزويلا عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، وتوقف موسكو عن تزويد كوبا بالكميات المطلوبة.

كما اضطرت وزارة الطاقة في الجزيرة، منتصف التسعينات، إلى الاستعانة بشركات خاصة من أجل تأمين كميات كافية لسد العجز في محطات الوقود. ولقد ترددت شركات عدة في قبول عروض غير مغرية، لأنها تشترط أن يكون الدفع بالسكر لا بالدولارات المفقودة. وتقدمت في حينه شركة «بي بي إنرجي» – شركة بهاء بساتني – بعرضٍ قدِّرت قيمته بنحو 12 مليون دولار، كان بمثابة المدخل لمزيد من هذه المداولات التجارية. وافتتحت الشركة مكتباً في هافانا كان يديره رياض بساتني، ثم تولى إدارته من بعده نجله وائل.

ومع وصول هوغو شافيز إلى الحكم في فنزويلا، نعمت كوبا بحصة كافية من النفط، من دون أن تهتم بتنفيذ التزاماتها المالية المخفضة. صحيح أن وريث شافيز، الرئيس نيكولاس مادورو، حافظ على التزاماته تجاه كوبا… لكن الصحيح أيضاً أن انهيار سعر النفط أدى إلى حرمان الدولة الفنزويلية من نصف عائداتها النفطية.

ويخشى الخبراء أن تتراجع إنجازات برنامج الدعم الاجتماعي الحكومي مع تراجع عائدات النفط، وذلك رغم التأكيدات أنها لن تقلص الأموال المرصودة للطبقة الفقيرة. وكانت الحكومة قد خصصت ستين في المئة للخدمات الاجتماعية من إجمالي 118 بليون دولار رصدتها لموازنة 2015. ومن بين هذه الخدمات تأمين الرعاية الصحية والتعليم المجاني الشامل والتوسع في بناء المساكن الشعبية.

وقرأت كوبا في المتغيرات، التي أحدثها انهيار أسعار النفط، إشعاراً بأن فنزويلا لم تعد المصدر المعتمد للوفاء بالالتزامات السابقة، وأن ورقة الطلاق قد تصلها في أي لحظة. لذلك قام الرئيس راؤول، بدعم من شقيقه فيديل، بانعطافة تاريخية قادتهما إلى واشنطن بعد قطيعة استمرت نصف قرن تقريباً.

ويرى المؤرخون في تلك المرحلة سلسلة من النزاعات المتواصلة بدأت في 16 نيسان (أبريل) 1961 بعملية «خليج الخنازير» التي شارك فيها 1400 مقاتل… وانتهت عام 1962 بإعلان تهديد نووي أذاعه الرئيس جون كينيدي من مكتبه في البيت الأبيض.

والسبب – بحسب ما ذكرته الوقائع بعد انتهاء الأزمة – أن الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف أراد إرغام الإدارة الأميركية على سحب صواريخها المزروعة على حدود تركيا، والموجهة إلى المدن الروسية. لذلك أرسل إلى حليفه كاسترو عدة منصات صاروخية، اعتبرها الرئيس كينيدي تهديداً مباشراً لمدن الولايات المتحدة. ولما أمر كينيدي بضرب حصار بحري حول كوبا، وطالب بنزع الصواريخ، أفهمه خروتشيف، عبر الوسطاء الأوروبيين، أن هذا الطلب لن يتحقق إلا إذا سحب صواريخه من تركيا. وهكذا انتهت المفاوضات بتعادل الفريقين، مع إذعان كينيدي لرغبة خروتشيف.

ولكن محاولات التخلص من كاسترو لم تنته. والسبب أن حضوره الطاغي، وقدرته على تحريك الجماهير، وإيمانه الثابت بانتصار الشيوعية… كانت كلها عوامل مقلقة لعشرة رؤساء أميركيين فشلوا في إسقاط الزعيم الكوبي. علماً أن كينيدي سخّر جهاز «سي آي أي»، (وكالة الاستخبارات المركزية)، لتدبير عملية اغتياله. وقد اعترف العميل فلورنتينو اسبياغا أن الوكالة جربت ثلاثين مرة أن تغتاله، ولكنها فشلت.

وذكر هذا العميل في كتابه: «الاستخبارات المركزية وآلة التجسس الكوبي»، أن فيدل كاسترو علم مسبقاً بأن أوزوالد كان عازماً على اغتيال كينيدي. وقد أبلغ سفير كوبا في المكسيك هذا القرار، يوم جاء يطلب تأشيرة دخول إلى هافانا بهدف إطلاع كاسترو على مخططه. ولكن السفارة رفضت منحه التأشيرة.

عقب إعلان الرئيس باراك أوباما عن سياسة الانفتاح وتطبيع العلاقات مع كوبا، حذره الرئيس راؤول كاسترو من الغرق في الأوهام لأن الشيوعية ستظل النظام السائد في البلاد. وكان بهذا الجواب يتصدى لأوباما الذي وصف النظام في كوبا بأنه: «نظام قمعي، ولكنه سيتغير في نهاية الأمر».

كذلك علق كاسترو على كلمة الرئيس الأميركي بالقول: «علينا ألا نتوقع تخلي كوبا عن أفكار ناضلت من أجلها مدة طويلة، في سبيل تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة. وكما أننا لم نطلب من واشنطن تغيير نظامها السياسي، نحن نطلب منها احترام نظامنا أيضاً». وقال كاسترو إنه يعوّل على تصميم أوباما استخدام صلاحيات الرئاسة لإحداث تغيير كبير في تطبيق الحظر داخل المجالات التي لا تحتاج إلى موافقة الكونغرس.

ويشير كاسترو بذلك إلى موقف الجمهوريين الذين يسيطرون، بدءاً من الأسبوع المقبل، على مجلسي الشيوخ والنواب، والى معارضتهم وتعهدهم بعرقلة الاتفاق وإبقاء الحظر المفروض منذ عام 1962 على الجزيرة.

«اللوبي» الكوبي في الولايات المتحدة يضم مرشحين جمهوريين للرئاسة هما جيف بوش وماركو روبيو، المولود في هافانا. والاثنان من ولاية فلوريدا. وقد سارعا إلى مهاجمة مبادرة أوباما، وقالا عنه إنه خائن لمبادئ أميركا، ومتصالح مع أنظمة ظلامية مثل كوبا وإيران. ولكن أوباما يعرف جيداً أن كاسترو ومحازبيه لم يولدوا شيوعيين، وإنما تحولوا نحو الاتحاد السوفياتي عندما رفضت واشنطن التسليم بوجود سلطة مستقلة في كوبا.

وحقيقة الأمر، أن الولايات المتحدة هي التي دعمت ثورة كاسترو، وكانت وزارة الدفاع الأميركية ترمي له الأسلحة والأغذية بالمظلات في جبال «سييرا ماييسترا». وبواسطة ذلك الدعم انتصر كاسترو على الديكتاتور باتيستا، ودخل هافانا في 8 كانون الثاني (يناير) 1959. وفي أول زيارة له إلى الخارج، تعمد القيام بجولة في الولايات المتحدة، أراد من ورائها إظهار توجهه السياسي نحو الجارة الكبرى. ويبدو أن واشنطن شككت بنياته الحقيقية عندما أسس الحزب الشيوعي الكوبي في 2 تشرين الأول (أكتوبر) 1965. ثم ازدادت تلك الشكوك بعدما ضم إلى طاقمه أرنستو تشي غيفارا، وتعهدا بنشر الشيوعية في اميركا اللاتينية وافريقيا.

والملفت أن واشنطن كانت أول عاصمة تعترف بالثورة الكوبية. ولكنها تراجعت عن هذا القرار، وأعلنت عداءها السافر لكاسترو بعدما أسرت قواته ألف مهاجر كوبي الأصل، خلال أزمة «خليج الخنازير.» وكان المهاجرون الكوبيون في الولايات المتحدة – وعددهم يُقدّر بمليوني شخص – قد ترددوا في قبول مبادرة أوباما، مشترطين إنهاء حكم الأخوين فيدل وراؤول، قبل العودة. كما اشترطوا أيضاً إدخال الترتيبات الجديدة المتفق عليها بين البلدين. وهي تبدأ بفتح سفارتين وتعيين سفيرين، ووضع تشريعات تنظم قوانين الاستثمار وتبادل السلع. وهذا بالطبع يقود الوزير جون كيري إلى اختيار سفير من الذين خدموا في بلدان أميركا اللاتينية.

وفي خطوة متقدمة، تبلغت المصارف الأميركية القرار القاضي بفتح حسابات للمهاجرين الكوبيين، وأنه باستطاعة كل فرد منهم إرسال مبلغ ألفي دولار كل ثلاثة أشهر. كما أنه بمقدور كل زائر أميركي شراء حاجيات بمبلغ 400 دولار، بينها مئة دولار ثمن سيكار من النوع الذي اشتهرت به كوبا. وقد حرصت الشركة الحكومية، المحتكرة صناعة السيكار، على تخصيص مئة صندوق لكاسترو كان يوزعها على أصدقائه. ويبدو أن الاستخبارات الأميركية قد استغلت ولعه بتدخين السيكار، لتهديه، بواسطة اسم معروف لديه، صندوقاً مليئاً بالسيكار المسموم… وآخر محشواً بمادة متفجرة. ولكنه تجاوز المحنتين بفضل مراقبين أرسلتهم موسكو لحمايته الشخصية.

وفي خطابه الشهير، الذي استغرق إلقاؤه في الجمعية العامة سبع ساعات متقطعة في دورة 1970، أشار كاسترو «إلى أساليب أميركا الدنيئة للتخلص من خصومها». ولكنه في الوقت ذاته أشار إلى أن خطبه النارية ستحرم المسؤولين الأميركيين من نعمة النوم الهنيء.

واليوم، بعد مبادرة الرئيس أوباما، أصبح بإمكان كاسترو أن يدخن السيكار باطمئنان وثقة، من دون أن يخشى انتقام واشنطن!