عندما أسقط سلاح الجو التركي في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي قاذفة روسية خرقت الأجواء التركية آتية من سورية، لم يأت رد الفعل والتحذير من العواقب والتهديد بتدفيع تركيا الثمن من موسكو فقط، بل كانت واشنطن هي من «وبخ» أنقرة على الحادث وذكّرها بأن القرار بحصول أي مواجهة مع الروس في الموضوع السوري، وتوقيتها، تتخذه أميركا وحدها، بغض النظر عن «متطلبات الأمن القومي» التي تذرع بها الأتراك.
ومع أن الأميركيين انبروا علناً للدفاع عن الموقف التركي، ودفعوا «حلف شمال الأطلسي» إلى إعلان حمايته الأجواء التركية من أي رد روسي محتمل، إلا أن واشنطن أدركت أن أنقرة حاولت عبر إسقاط القاذفة التمرد على التفاهم المبرم بين الولايات المتحدة وروسيا حول إعادة رسم مناطق النفوذ في سورية، أو ما تمكن تسميته «المحميات الدولية» على الأراضي السورية، وإعلان عدم التزامها به.
هذا التفاهم الذي يطبق حالياً، ينص على تقديم كل من موسكو وواشنطن ضمانات بـ «ضبط» حلفائها ومنعهم من خرق «الحدود» التي اتفق عليها إلى حين جلوس كل الأطراف إلى طاولة المفاوضات بعد انتهاء المعركة مع «داعش»، للتوصل إلى حل سياسي يعيد توحيد سورية أو يبقيها مقسمة.
ويبدو أن مناطق شمال غربي سورية، بما فيها حلب، تقع ضمن حدود «المحمية الروسية» التي ترسم الآن وتتطابق تماماً مع «الدويلة العلوية»، مع بعض الإضافات التي تهدف أساساً إلى تأكيد «تحييد» تركيا ومنعها من تهديد «الكيان» المزمع، عبر إقامة «منطقة عازلة كردية» بضمانات أميركية – روسية مشتركة.
في المقابل حصل الروس من بشار الأسد على اتفاق وزعوا نصه يؤكد أن القرار العسكري، وتالياً السياسي، للدويلة المفترضة، صار بيدهم وليس بيد دمشق أو الإيرانيين، في ما اعتبر ضمانة روسية قدمت إلى الأميركيين بعدم السماح لهذين الطرفين بخرق التفاهم.
وجاء تصريح باراك أوباما الأخير عن أن التقدم الذي يحققه الروس في منطقة حلب لا يغير الكثير طالما أن «ثلاثة أرباع سورية لا تزال خارج سيطرة» دمشق وموسكو، ليمهد الطريق أمام القبول بسقوط حلب ووصل منطقتي الانتشار الكردي في الشمال السوري، على رغم المعارضة التركية. وترافق ذلك مع إعلان «البنتاغون» اقتناعه بصعوبة تطبيق فوري لاتفاق ميونيخ لوقف إطلاق النار الذي يفترض أن يسري اليوم أو غداً.
لكن، ما الذي تحققه أميركا من الاتفاق مع الروس، ولماذا تسمح لموسكو باستعادة دور في المنطقة كان تقلص إلى حد التلاشي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي؟
تواصل الولايات المتحدة تأكيد أن القضاء على «داعش» أولوية تتعلق بأمنها القومي، وتكثر تقاريرها الاستخباراتية عن التهديد الذي يمثله التنظيم الإرهابي واحتمالات شنه اعتداءات داخل الأراضي الأميركية خلال هذا العام. لهذا، كانت في حاجة إلى طرف يستطيع مساعدتها في تحقيق وقف إطلاق نار بين المعارضة والنظام في سورية، في ظل عدم قدرة أي منهما على حسم المعركة لمصلحته، وحشد كل القوى لقتال «داعش».
وجدت واشنطن في موسكو ضالتها، ووجدت هذه مصلحة مباشرة في لعب الدور المنشود. لكن، من الواضح أن الأميركيين سجلوا نقطة استراتيجية لمصلحتهم عندما دفعوا روسيا إلى التورط مباشرة في الحرب السورية، وفي الوقت نفسه ربطوا قدرتها على مواصلة دورها بقرارهم.
وبمعنى أوضح، فإن الأميركيين يستطيعون في حال استنتجوا بأن موسكو لم تعد تلتزم التفاهم، أن يقرروا متى وكيف يجبرونها على التفكير في التراجع أو الانسحاب، بمجرد سماحهم بتسريب ولو عدد محدود جداً من الصواريخ المضادة للطائرات إلى المعارضين السوريين.
ويضاف إلى ذلك أن الكلفة المالية الباهظة للانتشار الروسي التي تحدث عنها أوباما، وإصرار الأميركيين على إبقاء أوروبا العقوبات الاقتصادية مفروضة على موسكو في الملف الأوكراني، يتيحان للأميركيين ورقة ضغط قوية على بوتين، على رغم تأكيدات الأخير أن تورطه في سورية «مجاني» تقريباً.