Site icon IMLebanon

أوباما – بوتين وحلب بينهما

خلال قمة الأمن النووي التي انعقدت في عاصمة كوريا الجنوبية سيول في آذار (مارس) 2012، وأثناء انفراد الرئيس باراك أوباما بالرئيس الروسي يومذاك ديمتري ميدفيديف، لم يكونا يعرفان أن الميكروفون أمامهما كان مفتوحاً، فسُمِع أوباما يقول لميدفيديف: «هذه آخر انتخابات لي. بعد الانتخابات سأكون أكثر مرونة». وردّ الرئيس الروسي: «سوف أنقل هذه المعلومات إلى فلاديمير». ولم يتأخر قادة الحزب الجمهوري الأميركي في التعليق على ذلك، فقال نيوت غينغريتش: «انتظروا إذا فاز أوباما، فسيترك إسرائيل لأعدائها، ويبيع بلدنا للروس».

حينذاك كانت نقطة الخلاف الرئيسية بين روسيا والولايات المتحدة تكمن في الخطة الأميركية لبناء شبكة صواريخ وصواريخ مضادة في شرق أوروبا.

وأي قارئ لطبيعة فلاديمير بوتين يدرك أن الرجل لن يقف مكتوف الأيدي أمام نشر الأطلسي للدرع الصاروخية التي تبدد امتياز وخصائص المنظومة الصاروخية لروسيا وتفقدها نقاط التفوق مع أوروبا. ولئن وجدت القومية الروسية أمجادها وانتصاراتها في أوروبا والغرب عبر التاريخ ورفعت العلم الأحمر في برلين، فيما تلقت الكثير من الخيبات والهزائم من آسيا والشرق عموما، وكان آخرها في أفغانستان، فذلك يحدد سلسلة الأهداف الروسية وراء سلوكها العدواني في ساحات ودول العالم ويدفع بوتين إلى التعويل على صورته كمحارب ومتشبث بالتوازن الذي يستهدف أوروبا بالأساس، وذلك لدواع داخلية، في حين افترض أوباما أن بوتين يمكن أن يسير بسياسة الإرضاء والمكافأة على سكوته إن هو راعى ليونته في قضايا محددة.

حقل الاختبار بين البلدين هو بالأساس أوروبا، أما الذي يتحكم في ذلك فهو العلاقة بين الرئيسين القائمة على خصائص كل منهما الشخصية. أوباما مُكثر من التودّد وبطيء الحركة، وبوتين سريع الحركة وقليل التودّد. الأول ذاهب إلى انكفاء الولايات المتحدة عن القضايا العالمية المعقدة التي تستوجب دفع الأكلاف ويريد إنهاء ولايته بسلام مع إيران وهدنة في سورية، والثاني يفاقم النزعة القومية في روسيا ويتفرج على تدفق النازحين إلى أوروبا ويقضم مزيداً من المكاسب نتيجة التراجع الأميركي في سورية.

أوروبا موحدة قوية ممتدة تهدد مصالح روسيا وتضعفها. هذه القناعة راسخة بالنسبة إلى بوتين، فيما تفعل أزمة النازحين فعلها وتهدد الوحدة الأوروبية وتقوي تيار اليمين المعادي للمسلمين وتفتح مجالاً للشراكة مع روسيا في محاربة الإرهاب. إذّاك يصبح السكوت عن مجازر حلب مفهوماً، وما تقوم به روسيا في الشرق الأوسط يطوي صفحة المطالبة بملاحقة الأسد قضائياً، لا بل تجعل من بقائه أمراً واقعاً ولا ضير فيه. والأصوات التي ترتفع في أوروبا لرفع العقوبات عن روسيا ترتبط بتوظيف قدرات بوتين في مهمة ضرب الإرهاب في الشرق الأوسط.

هذا الستاتيكو الذي ينتظر إدارة أميركية جديدة لتعيد تركيب عناصره الأولية، إنما يأتي وقعه على الثورة السورية أليماً، فالهدنة يستثمرها النظام ويستفيد منها في ترييح جبهات وتزخيم أخرى، فيما المعارضة لا تلقى الدعم النوعي الذي يقلب المعادلة لمصلحتها.

معضلة الأسد ترتبط بالنظرة الأميركية إلى طبيعة الصراع الدائر في سورية، وهو «صراع مذهبي وإقليمي يتجاوز شخص الأسد»، ووفق خبير السياسات هنري كيسنجر فإن «رحيل الأسد لن يحل المشكلة في سورية». وإذا أضيفت للقناعة الأميركية تلك حقيقة أن تواجد روسيا وإيران المباشر يحول دون إسقاط الأسد بالقوة، فذلك يعني أن المسألة بحاجة إلى توازن دولي وإقليمي آخر ليكفل نهاية الحرب في سورية. توازن يرفع كلفة الوجود الروسي ويحد من تدخلات إيران ويضمن إرادة أميركية ترضى بالبديل عن نظام الأسد.

حتى ذلك الحين فإن حدود التفاهم القائم بين روسيا والولايات المتحدة حول الشأن السوري وإن بدا عميقاً فإنه لا يسد الفجوة التاريخية القائمة بين البلدين، وهو بالتالي مرشح للإضافات أو التعديلات أو الفشل، وهذا يعتمد على صلابة موقف المعارضة من جهة وعلى مواقف حلفاء المعارضة الإقليميين من جهة ثانية.

والفجوة تلك تتسع في ظل تصاعد الموقف في النطاق المحازي لروسيا في أوروبا ودول البلطيق الذي يأتي في سياق الخلاف على هوية أوكرانيا بين أن تشكل جسراً بين روسيا والغرب، بما يمكن أن يُرضي بوتين أو أن تُدمج في الفضاء الأوروبي. نزاع يكرر ذاته في الصراع على هوية سورية بين أن تدخل في الفضاء العربي الصاعد بما يعنيه ذلك من مكسب استراتيجي للعرب أو أن تبقى تشكل رأس جسر لروسيا وإيران في المنطقة.

في القلب من ذلك، تأتي المجازر التي يرتكبها الأسد في حلب والتي تعكس افتقاد القدرة الأميركية للتصرف إلا بما يستطيعه الروس فيما تشتد ضغوط أوباما على المعارضة وحلفائها لجلبهم إلى المفاوضات بالشروط المتفاهم عليها بين كيري ولافروف.

والمأساة تتفاقم عندما يتحول دور المبعوث الدولي ستيفان ديمستورا من مفوض بتنفيذ تفاهمات جنيف وفيينا والقرار الدولي الرقم 2254 إلى مُرسل لاستكشاف النوايا ونقل الأفكار ليس إلا.

ما كشفه ميكروفون سيول، من تواطؤ بين أوباما وبوتين، نقطة في بحر ما يكشفه صمت الإدارة الأميركية عن مجازر يرتكبها نظام الأسد في حلب وعموم سورية.