عاد لبنان لينشغلَ بإعادة تفسير القرار الدولي 1701 وطريقة الحفاظ على الستاتيكو الذي أقامه بين «حزب الله» وإسرائيل. غير أنّ تفاعل الإدارة الأميركية مع ما شهدَته الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية ومنطقة الجولان السورية، عكسَ اطمئناناً بأنّه ليس قلباً «للطاولة».
فقَلبُ الطاولة يحتاج إلى قراراتٍ استراتيجية تُمسِك واشنطن بمفاتيحها حتى الساعة، وهي لم تُقدّم إشارات تًشِي بقبولها هذا التغيير، فيما رسائل التهدئة العلنية جاءت من الطرفين المعنيّين. لكنّ تسارُع وتيرة الأحداث وتشعّبها، خصوصاً بُعيد نشرِ صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية تقريراً إستخبارياً «غير رسمي» عن اغتيال القائد العسكري في «حزب الله» عماد مغنية،
سَلّط الضوء على عدد من القضايا، قد يكون من المفيد الإشارة إليها في معرض رسم حدود الإشتباك والتعاون والتنسيق، سواءٌ بين الأميركيين والإيرانيين أو مع الإسرائيليين.
تقول أوساط أميركية مطّلعة: «من الأفضل البدء من خاتمة التقرير وليس من بدايته أو من متنِه، عندما أشار إلى طريقة تجنّب استهداف قائد «فيلق القدس» في «الحرَس الثوري الإيراني» اللواء قاسم سليماني، في اعتباره جوهرَ الرسالة التي وُجّهت الى الإيرانيين».
وتنصح «بعدم الاستغراق في الحديث عن قلب قواعد الإشتباك، في اعتباره خطاباً داخلياً لبنانياً صرفاً، فيما الحدث يشير إلى دور إيران وما هو مسموح لها به، في ظلّ الصراع المفتوح في المنطقة. ليس معروفاً، وقد لا يتاح تقدير ما إذا كانت غارة القنيطرة تمت بمعرفة أميركية. لكنها على الأرجح تأتي في سياق محاولات تحديد الحدود التي لا يمكن لطهران تجاوزها في وقت تحاول تعزيز «حيثيتها» الإقليمية.
في هذا الإطار، تشكل غارة القنيطرة وكشف دور الإستخبارات الأميركية في تصفية مغنية، رسالة مزدوجة بأنّ التلاعب بأمن إسرائيل، خط أحمر لا يمكن تجاوزه في تلك اللعبة».
وتؤكد تلك الأوساط أنّ نجاح «حزب الله» في تسديد ضربة لإسرائيل في منطقة لا تطيح بقواعد الاشتباك يبقى في خانة الإنجاز العملياتي، فيما السياسي مضمون، بدليل أنّ منطقة الجولان قد تبقى خاضعة للمقاييس ذاتها منذ اكثر من 40 عاماً.
المشكلة أنّ هناك جهداً كبيراً لا بدّ من إستكماله لإرغام طهران على التقيّد بالحدود المرسومة لها، خصوصاً أنّ الأدوات التي ستبقى تستخدمها هي في الأساس قابلة للتصرف، وتخدم خطابها السياسي عربياً وإسلامياً، وتحتاج فيه الى مقولة النزاع مع إسرائيل. هذا ما يُفسّر في جانبٍ منه عودة الحرارة على خط غزة – طهران مع الإعلان عن إعادة تمويل حركة «حماس»، ولو جزئياً.
لكن في المقابل، هناك مَن يُحذّر من أنّ «غض» النظر الأميركي عن تصاعد الدور الإيراني في المنطقة، قد يكون سلاحاً خطيراً وذا حدين.
فإذا كانت إدارة الرئيس الاميركي باراك أوباما، التي لا تلقى حتى الساعة معارضة جدية ووازنة من دوائر القرار الأميركية، سواء الديموقراطية او الجمهورية، ترى في عقد شراكة مع «شيعة المنطقة» بقيادة إيران، لمواجهة متطرّفي السّنة، خياراً سياسياً صائباً، فإنها أكثر الوصفات استدراراً للفوضى العارمة، التي ستصيب شظاياها، وهي أصابت بالفعل، القارة الأوروبية المأزومة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولا شيء يمنع أن تطاول
شظاياها الولايات المتحدة نفسها.
وما يحدث في اليمن خير مثال عن نوع «التناغم» القائم بين طهران وواشنطن، فيما تسلسل الأحداث فيه بدأ يشير الى حجم المستنقع الذي ستغرق فيه المنطقة. وتصنف تلك الأوساط تقرير الصحيفة الأميركية عن اغتيال مغنية بأنّه جزء من الرسائل البالغة الوضوح الى «الشريك» الإيراني ليلتزم قواعد اللعبة الاقليمية.
وتضيف بأنّ إيران نجحت حتى الساعة وبشكل كبير في الإبتعاد عن خوض مواجهات مباشرة في المنطقة، في معزل عن الخطابات النارية لحرَسها الثوري، طالما أنّ هناك مَن يقاتل عنها وبإسمها وتحت رعايتها، من دون الحاجة الى دفعها أكلافاً مباشرة.
غير أنّ مقتل القائد الإيراني محمد علي الله دادي مع عناصر «حزب الله» في القنيطرة يُذَكِر طهران بأنه كان في الإمكان تفاديه كما حُيّد سليماني. فكلفة اللعب مع واشنطن استخبارياً، وتداعياته، ليسا في متناول طهران.