لأنّ الزمن في الولايات المتحدة الأميركية هو زمن الانتخابات الرئاسية، تريد إدارة الرئيس باراك أوباما إنجاز مهمّة قتال «داعش»، وتدمير الدولة التي أقامها في العراق وسوريا، واستثمار ذلك في صناديق الاقتراع. ولأنّ التفاهم السياسي على العراق والتسوية في سوريا يجب أن يستبِقا البدء بتقويض دولة «داعش»، فإنّ واشنطن تدفع في هذا الاتجاه على رغم العوائق الكبيرة الموجودة، واعتراضِ جهات إقليمية كبيرة.
قد تكون الانتخابات الرئاسية الأميركية الحاليّة واحدةً مِن المرّات القليلة التي يُعتبَر فيها العامل الخارجي عاملاً مؤثّراً في اقتراع الناخب الأميركي.
ويعود السبب إلى شعور المواطن الأميركي بخطر الإرهاب الصادر عن «داعش» والذي ضرب قلب أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، وأصبح محطّ اهتمام الإعلام.
ووفق آخِر استطلاعات الرأي التي أجريَت تبيّنَ أنّ الأميركيين يعتبرون دونالد ترامب اكثر قدرة على محاربة «داعش» من هيلاري كلينتون، وأنّ 44 في المئة تَعتبره صادقاً وجديراً بالثقة، في مقابل 39 في المئة لصالح كلينتون.
طبعاً هذا العامل على اهمّيته ليس العنصر الوحيد الذي يدفع بواشنطن للبدء بمحاصرة تنظيم «داعش» وضرب البنية التحتية لدولته، ذلك أنّ الحركات المتطرفة التي تجتاح مجتمعات الشرق الاوسط دفعَت بالخيارات المتطرفة الى الواجهة، ما جعلَ القوى المعتدلة في حال تراجُع وانحسار، ما يَرفع نسبة المخاطر والمفاجآت غير المحسوبة.
ففي تركيا، حيث التفجيرات متتالية، أظهرت التشكيلة الحكومية الجديدة إقصاءَ العلويّين ووصولَ أغلبية وزارية متحدّرة من منطقة الرئيس رجب طيب اردوغان ومن خرّيجي المدرسة الدينية، مع إشارة الى أنّ الحكومة تغلبُ عليها النزعة الإقليمية.
وفي الخليج العربي، تبدو الأمور دقيقة مع استمرار تدفّق العناصر للانضمام إلى التنظيمات المتطرفة التي تقاتل في سوريا، وبعض هؤلاء خدمَ في السلك العسكري في بلاده سابقاً، وهذا ما يرسم علامات قلق شديدة مستقبلاً حول الاستقرار الداخلي لهذه الدول.
وفي إسرائيل اقتناصُ المتشددين لهذا الظرف والعمل على تعزيز السلوك المتطرّف للحكومة من خلال تعيين افيغدور ليبرمان وزيراً للدفاع في مقابل تشتّت أحزاب الوسط، أضعفَ الآمالَ بحصول تجاوب إسرائيلي بخصوص ملف التسوية مع الفلسطينيين.
وفي إيران استعاد الجناح المحافظ زمامَ الأمور، على رغم الانتخابات النيابية التي جرت أخيراً وسجّلت نكسةً له. مرشدُ الثورة اندفع أكثر في الملف العسكري في سوريا ورفضَ ولا يزال أيَّ تواصلٍ مع واشنطن لإنجاز تسوية في سوريا أو حتى في العراق، بل يسعى إلى انتصار عسكري كامل يَسمح له بفرض تسوية سياسية وفقَ نتائجها، وهو ما يَسمح له في الوقت نفسه بسَحب البساط من تحت أقدام الإصلاحيين الذين تُراهن عليهم واشنطن.
في العراق، تندفع الإدارة الأميركية لتثبيت واقع جديد يلائم مصالحَها، مستندةً إلى الأخطاء الكثيرة للقوى الشيعية المتحالفة مع إيران، مثل عدم التزام التفاهمات المسبَقة حول اقتحام الفلّوجة، ما يَدفع بالفريق السنّي أكثر فأكثر إلى أحضان واشنطن بالكامل.
في الأساس، يَعتبر الأميركيون أنّ إيران فشلت في العراق. فالفريق المتحالف معها أقصى السنّةَ عن الدولة المركزية وفضّلَ أن يكون رئيس الدولة صاحب السلطة المحدودة من الأكراد وليس من السنّة العراقيين.
لذلك ترعى واشنطن لا بل تزكي خيارَ الفدرالية، خصوصاً أنّ مرحلة ما بعد استعادة الموصل ستعيد فتح باب النقاش حول مستقبل العراق. في وقتٍ تدعو القوى السنّية إلى نقلِ السلطة بعيداً عن بغداد، حيث تضاءلَ الحضور السنّي.
أمّا في ما يتعلق بسوريا، فتشير المعلومات الى أنّ إدارة أوباما تفاهمت مع الكرملين على الخطوط العريضة للتسوية في سوريا وهي تتضمّن استمرار بشّار الأسد خلال المرحلة المقبلة، على أن يجريَ تعيين أربعة نواب له ينتقون من الفريق غير المحسوب على الأسد، ولكنّهم في الوقت نفسه على علاقة معه، مثل فاروق الشرع.
وقيل إنّ واشنطن نالت موافقة السعودية وتركيا على مشروعها الذي يتضمّن أيضاً كيفية توزيع الحكومة الجديدة والصلاحيات التي ستُضاف الى رئاسة الحكومة.
وتَروي المصادر الديبلوماسية أنّ موسكو تعهّدَت بانتزاع موافقة كلّ مِن إيران والنظام السوري، على أن يشكّل كلّ ذلك ممرّاً إلزامياً يُمهّد لمعركة طرد «داعش» مِن الرقّة. وعندها أيضاً قد توافقُ روسيا على استكمال تطويق حلب ولو أنّ هذا الطوقَ سيكون مكسوراً من خلال الأكراد.
لكنّ اللافت أنّ الإصلاحيين في إيران يحاولون التأثيرَ لصالح التسوية السياسية في سوريا على طريقتهم. فمثلاً، طلبَت دمشق قرضاً إضافياً من إيران بمليار دولار. إستغرقت المفاوضات بين الوزارات المختصة وقتاً طويلاً بسبب ترتيب الملفات وإدخال تعديلات عليها. وفي النهاية طلبَت الحكومة الإيرانية رهنَ بعض الأملاك «السيادية» في سوريا كضمان للقرض.
وعلى رغم ذلك لم يصِل القرض بعد إلى دمشق، أوّلاً لأنّ القرار في يد الحكومة، وثانياً لأنّ إيران لا تزال تعاني من الأزمة الاقتصادية. وقد يكون السبب الأهمّ للحكومة الإيرانية الضغط ماليّاً لدفعِ دمشق في اتّجاه تدوير الزوايا السياسية.
ما مِن شكّ في أنّ الصورة متشابكة ومعقّدة وشديدة الخطورة، وفي المقابل إدارة أميركية تسعى إلى انتصار خارجي أو صورة متشدّدة تعطيها «هيبة» قادرة على استثمارها لصالح الحزب الديموقراطي في الانتخابات الرئاسية.
الخبَراء في السياسة الأميركية والمتحمّسون لإقصاء ترامب لصالح أوّل سيّدة قد تدخل البيت الأبيض، يشيرون إلى أنّ سياسة كلينتون الخارجية ستكون أقربَ إلى جورج بوش الأب ومتوافقةً مع عقيدة أوباما التي أفصَح عنها أخيراً.
كلينتون التي شَغلت وزارة الخارجية الأميركية بين عامي 2009 و2013 كانت متحمّسة لانسحاب بلادها من العراق عام 2011، كما شجّعَت على فتح قنوات التحاور مع طالبان وأبدت تأييدَها للاتصالات التي كانت جارية مع إيران من خلال قنوات سرّية.
وحسب هؤلاء الخبراء فإنّ كلينتون المؤمنة بديبلوماسية طائرات «الدرونز» ستعمل على تطوير هذا السلوك والاعتماد عليه أكثر.
وهي تاريخياً اختلفَت مع افيغدور ليبرمان وعارضَت سياسته عندما كانت على رأس الديبلوماسية الأميركية. ففي حين كان ليبرمان ومعه حكومة نتنياهو يشجّعون سياسة الاستيطان، كانت كلينتون تطالب علناً بتجميد الاستيطان لأنّه يقضي على آمال التسوية السلمية.
وهي تملك برنامجاً كاملاً لإعادة الإسرائيليين والفلسطينيين إلى طاولة المفاوضات، ساعدَها في وضعه فريق العمل الذي واكبَ مرحلة زوجِها بيل كلينتون عندما كان في البيت الابيض، وفي طليعة هؤلاء الديبلوماسيّ صاحب الخبرة الطويلة والرفيعة مارتن انديك. ويجزم هؤلاء الخبراء بأنّ ملف التسوية الاسرائيلية- الفلسطينية سيكون العنوانَ الاوّل لسياستها في الشرق الاوسط.
وسط كلّ ذلك لا يجد لبنان مساحة ولو صغيرة للاهتمام بأزمته السياسية الخانقة، على الأقل خلال المرحلة المنظورة. وهو ما يَدفع للاستنتاج بأنّ الملفّ الرئاسي سيبقى مغيَّباً حتى إشعار آخر، أو على الأقلّ حتى انقشاع دخان المعارك في سوريا.
لذلك تبدو الانتخابات النيابية والتحضير لها داهمةً أكثرَ من الاستحقاق الرئاسي، وقد تكون نتائج الانتخابات النيابية نقطةَ انطلاق لتزامُنِها مع اكتمال فريق الإدارة الأميركية الجديدة.
وفي انتظار ذلك، ستستمرّ واشنطن في سياستها القاضية بالضغط المالي على «حزب الله»، حيث إنّ السفيرة الأميركية الجديدة في لبنان، والتي ستصل إلى مقرّ عملِها الجديد خلال الشهرين المقبلين، تحمل مهمّة أساسية قاضيةً باستكمال الضغط المالي على الحزب، إلى جانب السهر على الاستقرار الأمني.