تميزت دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1960 بالخطاب الطويل الذي ألقاه فيديل كاسترو ضد الرأسمالية المتوحشة (7 ساعات). كما تميزت أيضاً بانتقاد الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشيف لرئيس وزراء بريطانيا هارولد ماكميلان ومقاطعته.
وقد أثارت تلك المقاطعة المهينة حفيظة الأعضاء الذين فسروا ردّ فعل خروتشيف بأنه خروج على سلوك الديبلوماسية المتبعة في الأمم المتحدة. أي الديبلوماسية المنضبطة في إطار الاحترام المتبادل. ولكن خروتشيف لم يأبه لاعتراض المعترضين، وظل يضرب بحذائه على الطاولة الى أن توقف المترجم عن نقل عباراته الغاضبة.
ولما خرج من القاعة محاطاً بأركان السفارة، عقد مؤتمراً صحافياً طالب فيه بضرورة نقل مقر الأمم المتحدة من نيويورك الى جنيف، لأن الولايات المتحدة، في رأيه، غير جديرة باستقبال وفود المنظمة.
ولم تقتصر إعتراضات خروتشيف على التشويش الذي أحدثه داخل جلسات الجمعية العامة، وإنما تعداها ليصل الى الشارع الممتد قبالة مركز السفارة السوفياتية في نيويورك. وفي كل مساء كان يطل من شرفة مبنى السفارة ليخطب في جمهور المعترضين على وجوده، وغالبيتهم من الروس البيض الذين هربوا من الاضطهاد والملاحقة.
في إحدى الأمسيات، وبينما كان المترجم ينقل الى المتظاهرين تصوّر خروتشيف لعملية تطبيق المساواة بين المواطنين، إعترض أحد الحاضرين، وراح يلوّح بيده طالباً الكلام. ولما أذِن له المترجم، صاح قائلاً: أرجو أن يتسع صدرك يا سيدي لمعرفة حكايتي في هذه البلاد. أنا أدعى سبيرو. جئت من اليونان على متن باخرة شحن. وكنت أدرس في النهار، وأعمل كناساً في البلدية خلال الليل كي أجمع قسط الدراسة. وبسبب الظروف المواتية التي أتاحها لي النظام الرأسمالي، صرت رئيساً لمجلس إدارة شركة خاصة تضم أكثر من ألف موظف. وأحب أن أسألك: هل هذا متاح ومتوفر في نظامكم الاشتراكي؟
وبعد الإصغاء الى ما نقله المترجم، أجابه خروتشيف، على الفور، بالقول: يا مستر سبيرو. لولا الحياء لكنت خلعت بذلتي وقميصي كي ترى بعينيك آثار السياط التي طبعت خطوطاً فوق ظهري. أنا كنت راعياً لقطيع من الخنازير بسبب حاجة أهلي الفقراء. وهذه أحقر مهنة في بلادنا. وكان صاحب الخنازير يضربني بالسوط إذا تأخرت عن العمل. ولما جاءت ثورة لينين المظفرة، إنخرطتُ في صفوف الحزب، وحزت على ترقيات إرتفعت بسببها الى أعلى المراتب. فأنا اليوم القائد الأعلى للإتحاد السوفياتي. فهل هذا ممكن في النظام الطبقي الرأسمالي؟!
صباح اليوم التالي صدرت الصحف الاميركية بتعليقات متنوعة حول الجَدل الذي أثاره سبيرو اليوناني مع نيكيتا خروتشيف. وكتب البعض يقول إن الحظوة داخل النظام الاشتراكي هي حكر على أربعة ملايين عضو في الحزب الشيوعي الحاكم. بينما كتب البعض الآخر يقول إن النظام الاميركي الرأسمالي يفتح مجالات الرقي والنجاح أمام المنتمين الى نادي «الواسب» (WASP)، وهي مختصر للنخبة المختارة من الجنس «الأبيض الانغلو – ساكسوني البروتستانتي».
وحده الرئيس جون كنيدي وصل الى القمة على الرغم من كاثوليكيته. ولكن والده البليونير النافذ عوَّض بثروته الطائلة عن الارتباط بالطائفة البروتستانتية. وفي نهاية الأمر، جرى إغتياله قبل أن ينهي ولايته لأسباب ليس لها دخل بمواصفات نادي الـ «واسب»، بل باعتراضه على صنع اسرائيل للسلاح النووي!
ولكن، كيف إستطاع باراك أوباما تجاوز الخطوط الحمر في القاعدة «الواسبية» التي تمهِّد طريق النجاح والشهرة للشخصيات المحظوظة؟
تشير المؤلفات التي صدرت عن كفاح مارتن لوثر كنغ، ضد العنصرية وسياسة الإلغاء والتهميش، الى عبارة واحدة كانت كافية لاطلاق إنتفاضة السود في 28 آب (اغسطس) 1965. تلك العبارة قالتها سيدة تدعى مهاليا جاكسون، في الكلمة التي ألقتها بمناسبة عيد الفصح. وكان كنغ في حينه يفكر كيف يرتفع بمستوى خطابه من العادي الى التاريخي. خصوصاً أنه كان يعرف أن الرئيس جون كنيدي سيستمع اليه عبر شاشة التلفزيون في البيت الأبيض. وإذا بتلك السيدة تخاطب كنغ قائلة له: أخبرهم عن الحلم الذي تحدث عنه توماس جيفرسون وابراهام لينكولن!
وفجأة، دسَّ كنغ خطابه المكتوب في جيبه، ثم إرتجل كلمة مؤثرة أمام الجمهور قائلاً: يا أصدقائي وصديقاتي، أنا لا أنكر وجود عوائق وصعوبات كثيرة تعترض طريقنا اليوم وغداً. ولكن هذه الصعوبات لا تمنعني أن أحلم. فأنا لديّ حلم… لدي حلم منبثق عن حقيقة ساطعة مفادها أن كل البشر خلقوا متساوين في الحقوق.
والثابت أن الزحف الجماهيري الضخم الذي قاده في واشنطن تحت يافطات «لدي حلم» كان المحرّض الأساسي للتخلص منه. وقد صدرت أوامر الـ «اف بي اي» باغتياله يوم أول خميس من نسيان (ابريل) 1968. وكان عمره يومذاك 39 سنة.
في الذكرى الخمسين لزحف مئة ألف مواطن أميركي أسود الى واشنطن، إحتفل باراك أوباما بتلك المناسبة، مؤكداً في البيت الأبيض أن مارتن لوثر كنغ وضع له ولأمثاله حجر الأساس في صرح الحقوق المدنية.
والثابت أن اوباما إكتشف جذوره الافريقية واعتبرها وساماً حاز عليه من والدته البيضاء. وكتب في مذكراته يقول إنه يتحدر من سلالة عبد كان يدعى جون بانش. وقد حاول مرة الهرب من مستعمرة فيرجينيا سنة 1640، والانعتاق من عقد الاستخدام. ولكنه أعيد الى المزرعة التي هرب منها بعد فترة قصيرة.
ويؤكد علماء الأنساب والسلالات أن بانش، العبد الأسود، هو قريب أوباما من جهة والدته البيضاء آن دانهام. والغريب أن أم اوباما المولودة في كنساس لم تكن تعرف أنها تنتمي الى عائلة سوداء، عبر سلالتها القديمة.
ويعترف الرئيس أوباما في مذكراته أنه أمضى طفولته وهو في حيرة من أمر حسبه ونسبه. ولكنه قرر الانتماء الى الجنس الأسود بعدما أطلق عليه زملاؤه في المدرسة لقب «باوريو». وهي كلمة تعني: «صاحب البشرة السمراء الغامقة».
ويُستدَل من صورة شجرة العائلة، المنشورة في المذكرات، أن جون بانش تزوج من عاملة بيضاء وأنجب منها عدة أولاد. ويرى أوباما أن البحث عن الأجداد قاده الى إكتشاف جد جد جده في نيويورك سنة 1850. كما إكتشف أيضاً أنه نسيب 28 رجلاً وإمرأة غالبيتهم في كينيا.
وعندما قرر خوض معركة الكونغرس، ومن ثم الرئاسة، إعتمد أوراق الأحوال الشخصية التي تشير الى أنه مواطن أميركي ولِد في هاواي سنة 1961. وقد إضطر أكثر من مرة الى رفع شهادة ميلاده أمام المشكّكين بولائه الوطني، وما إذا كان إنتماؤه الى كينيا يخفف من مشاعره نحو الولايات المتحدة. وعندما أثار دونالد ترامب هذا الموضوع في غيابه، علق بالقول إنه لا يستطيع منع المشوشين من الثرثرة.
وكان من الطبيعي أن يستنفر الرئيس الكيني أهورو كينياتا أكثر من عشرة آلاف شرطي بهدف حماية الرئيس الذي زار مسقط رأس والده للمرة الثانية. والسبب أن «حركة الشباب» الصومالية الاسلامية هددت بإحداث قلائل واضطرابات من أجل إفساد زيارة الرئيس الاميركي. وكانت السفارة الأميركية في نيروبي قد حذرت من تهديدات «الشباب»، خصوصاً أن سجلها الدموي حافل بالمجازر على الأراضي الكينية. ففي نيسان (ابريل) الماضي تسببت الحركة بمقتل 147 طالباً في هجوم على جامعة غاريسا. وفي سنة 2013 قتِل 67 شخصاً في هجوم على مركز «ويست غايت» التجاري.
ومعروف أن اثيوبيا، التي زارها الرئيس، فرضت نفسها حليفاً قوياً في التصدي لحركة «الشباب» عبر مشاركتها بفرقة تضم أربعة آلاف عنصر داخل قوات الاتحاد الافريقي المنتشرة في الصومال.
وتزعم الصحف الاميركية أن الرئيس اوباما تعرَّض للانتقاد الشديد بسبب تجاهله القارة السوداء، ومنح الصين الفرص الاقتصادية لتثبيت نفوذها في أكثر من عشرين دولة. وقبل ست سنوات أعلنت بكين أن حجم التبادل التجاري مع افريقيا فاق كل الدول الغربية بما فيها فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة. وتدافع الادارة الاميركية عن رئيسها بالقول إن إنشغاله في موضوع الانسحاب العسكري من العراق وأفغانستان فوّت عليه فرصة الاهتمام بافريقيا. إضافة الى هذا، فان تركيزه الحالي منصب على آسيا حيث المخاوف تزداد من تنامي القوة العسكرية الصينية.
ولكن بكين ليست حديثة العهد في افريقيا. ذلك أن حضورها الطاغي جعلها مرجعية سياسية يلجأ اليها الزعماء المتخاصمون. ويرى الاقتصاديون أن قادة الصين إكتشفوا أهمية هذه القارة من أجل تنمية بلادهم. فهي تسبح في بحيرات من النفط والغاز. وتملك أكبر مخزون من اليورانيوم في العالم. وهي قادرة على توفير الغذاء والفواكه والخضار لأكثر من بليوني نسمة، شرط تأمين الأنظمة المتطورة وتحديث طرق المواصلات البرية بين الدول.
الصحف الاميركية المؤيدة للحزب الجمهوري نصحت اوباما بضرورة الاقتداء بمنجزات سلفه جورج دبليو بوش. وكانت بهذا التلميح تشير الى حملة مكافحة إنتشار فيروس نقص المناعة. وانتهت برامج تلك الحملة بأن تناول ثلاثة ملايين شخص المضادات لهذا المرض. كذلك فعل الرئيس بيل كلينتون الذي صادق نيلسون مانديلا، واعتبره نبراساً وقدوة للأجيال الجديدة. وبلغ من شدة تقديره له أن كتب كتاباً عنه.
في نهاية جولته الافريقية، إعترف اوباما بأنه سيخصص ما تبقى من ولايته الثانية لتشجيع الاميركيين على الاستثمار في القارة السوداء. كما سيولي موضوع الأمن عناية فائقة لأنه صمام الأمان لدول تضج بالخلافات العنصرية والسياسية.
وفي كلمته الى زعماء دول الاتحاد الافريقي، شدّد اوباما على أهمية التخلي عن الصور النمطية القديمة لقارة غارقة الى الأبد في الفقر والحروب. وأكد في أديس أبابا على وقوف بلاده الى جانب افريقيا في مكافحة الارهاب وإنهاء النزاعات، داعياً الأفارقة الى القضاء على سرطان الفساد الذي يبتلع ملايين الدولارات. كذلك طالب بضرورة تبني مبادىء الديموقراطية لضمان تقدم هذه البلدان التي تنوء تحت أثقال المتشبثين بالحكم، الذين يعتبرونه جزءاً من تراث قبائلهم.
بقي أن يترجم أوباما هذا الكلام الى أفعال، قبل أن تشغله مسألة الاتفاق النووي مع إيران، وقبل أن يشتعل الشرق الأوسط بالبارود الذي صنعه وزير خارجيته جون كيري!